يمر الإنسان بعدة مراحل خلال مسيرة حياته، تبدأ بالطفولة البريئة، وحياة الا مسؤولية، والشقاوة المقبولة، فالمراهقة، فبداية النضج، فالنضج المبدئي، وهو مختلف السِّن أو العُمْرِ من شخص لآخر، فالاستقلالية الفكرية أو العقلية أو العملية، فالحياة الزوجية والأسرية أو مرحلة الاستقرار الذاتي والتكوين الأسري الجديد، أو مرحلة الشباب والطموح والخيال عند البعض، أو التبعية واللا مبالاة عند المدللين، ثم بلوغ الأربعين حيث تبدأ مرحلة الخبرة والحكمة والمنطق حتى الستين تقريباً، ثم يبدأ العد التنازلي لمرحلة الشيب، فالشيخوخة، فالهرم.
لكل مرحلة منها أحداثها وتجاربها ومواقفها، تختلف من شخص لآخر، وتتباين بينهم بحسب شخصيته وطريقة تربيته أو نشئته أو معرفته وعلمه وطموحه، وقد تتغير من مرحلة لأخرى، أو في مرحلة لموقف معين يمكن أن يكون لها إيجابيات أو سلبيات قد تُحدث نوعا من التعديل أو التغيير على مسيرة حياته.
أيام الطفولة التي مرت بكل فرد منا، ذكرياتها متنوعة ومواقفها مختلفة من شخص لآخر، تحمل الكثير من ملامح البراءة والجمال، وحرية الحركة، وعدم التفكير، والخيال والأوهام، والجِدْ والهَزَلْ.
لو تَرَيَّثْتَ قليلاً عند بوابة تلك الحياة، وتسللت لبعضٍ من غرفها المختلفة الموقع والحجم، وفتحت إحدى نوافذها لرأيت ما بقي بداخلها من تلك الذكريات العتيقة، وبعضاً من المذكرات البالية أو الدفينة في باطن العقل والخيال، وستجد بينها وريقات اِصْفَرَّ لونها وبَهت لون حبر كلماتها، لا تزال موجودة على طاولة صغيرة من الخشب العتيق، أو على أحد الصناديق التي استخدمت كبديلة عن الطاولة، وأوراق أخرى بين أرفف الدواليب الخشبية القديمة ذات الدرف المخلوعة أو المكسورة أو المفقودة، وثالثة لا تزال على حافة الدرج وقد غطتها طبقات من التراب الناعم، تنتظر لحظة إزاحته عنها واللقاء بكاتبها بابتسامة شوق وحنين شديدين، بعد أن جار عليها الزمان، وغاب عنها ضوء المكان، وحجبت عنها الشمس، وانتشرت في كل مكان رائحة الغبار الرطب الممزوج برائحة الورق القديم والخشب العتيق.
تقف ناظراً إليها في سعادة وشوق، وتتنهد في مرارة مرات عديدة من الأعماق في تعجب مصحوب بالدهشة وعلامات الاستفهام.
تحتار! بأيهم تأخذ!، ومن أين تبدأ! وكيف! تقلب تلك الوريقات التي تآكل أطراف بعضٍ منها، أو طَمَسَ الزمان بعضاً من كلمات بعضها، أو غير الظلام لون أحبارها، تقلبها وكأنك تداعب رضيعاً خوفاً عليها من الضرر. تجد بينها أو بين صفحاتها صوراً عديدة وألوانا دفينة زاهية رغم عبور الزمن عليها، تجد شيئاً منها قاتم، وترى بعضاً منها متجهمة الوجه أو مقطبة الحواجب، وقد ترى قطرات دموع عتاب بعضها سعادة بعودتك، أو حزنا على فراقك.
قد تجد بينها وريقات أخرى تتخللها بعض الأحداث الجميلة والابتسامات العريضة والنظرات البريئة، وقد تجد أشياء لا تتوقعها.
تُواصل تقليب تلك الصفحات وأنت تسترجع معها شيئاً من الماضي وكأنها شريط سينمائي يدور كعجلة مكنة سينما ذلك الزمان أمام ناظريك وفي خيالك، وداخل مشاعرك الدفينة، وفي أعماق أحاسيسك الجياشة.
تدور بك عجلة الحياة، لا تدرى للوهلة الأولى أهي حقيقة مضت بكل ما كان فيها، أم أنها مجرد خيال يسيطر على مشاعرك، وحنين عميق لماضٍ سحيق! أم أنها أوهام تجول بخاطرك، أو خواطر عابرة طرأت على بالك تجعلك تتعايش معها لحظات، تشعر خلالها بأحاسيس مختلفة ومتضاربة بين المتعة والسعادة وراحة النفس، وبين الحزن العميق لهذا للهجر الطويل والفراق القاسي.
فجأة تستيقظ من تلك الخواطر الخيالية وتعود لذاكرتك الواقعية، أو ذكرياتك الماضية مرة أخرى عبر تلك الفترة الزمنية المنقضية من حياتك، بتنهيدة عميقة، أو دمعة حزينة، أو ابتسامة عريضة، أو حركة غريبة، تفيق من غفلة التخيلات البعيدة لتجد نفسك في الحاضر بحالته.
يا ترى حُلُم! أم حقيقة! خيال! أم أوهام! شك! أم يقين! احتمالات عديدة وأفكار غير متجانسة.
الغالب منا تمر به لحظات مثلها يحاول تحجيمها أو تحجيم شيءٍ منها، أو عدم الإفصاح عنها حتى لا يُوصف بالرجعية، أو يُرمى بالهلوسة، أو يُنسب إليه الجنون، أو يُقْذَفَ بالوهم، أو يُنْعت بالتخيل! لكنها الحقيقة التي لا تُنسى وإن حاول أحد تناسيها بعض الشيء، حتى لا يتحسر على ما كان في ذلك الزمان من المتعة المتجانسة، والجمال الطبيعي، والحياء الحقيقي، والاستحياء البديهي، والحياة المجتمعية المترابطة الأطراف، المتماسكة الأيدي في السراء والضراء.
كم تسترجع الذاكرة صور بعض زملاء الطفولة، أو زملاء الحارة، أو جلساء مقاعد الدراسة في مراحلها الأربعة! وقد تجد صوراً فوتوغرافية لبعضهم، جار عليها الزمان، وبَهُت لونها من شدة الظلام لما يقارب الستين عاما.
آه! آه! آه يا زمن! ترى أين هم هؤلاء الزملاء أو الأصدقاء الآن! يا هل ترى، من منهم لا يزال على قيد الحياة بعد مرور أكثر من نصف قرن على الفراق! وإلى أين وصلوا، وكيف أصبحوا!
قد تتذكر أن أحدهم أصبح مسؤولاً في جهة ما، وآخر رجل أعمال أو خلافه، وثالث صاحب مهنة، ورابع تقاعد وبصحة جيدة، وخامس وسادس.
قد يكون أحدهم على تواصل معك بإحدى وسائل التواصل الحديثة، أو وصلتك أخبار عنه عن طريق صديق آخر، وقد يكون أحدهم يقاوم المرض، أو يتصارع مع الحياة، وقد يكون أحدهم في -رحمة الله سبحانه وتعالى-
أسئلة كثيرة تراود الخاطر وتناجي الفكر في هدوء وسكينة حتى يُسْدِلَ عليها الفجر ستاره الأبيض، أو يخيم عليها ظلام الليل وغياب البدر، فيحيطها بسكونه الهادئ.
تختبئ تلك المشاعر خافضة الرأس، وتذوب الأحاسيس منكسرة الجناح خائفة مرتعدة مختبئة بين أضلعنا، سائرة في عروقنا لتحتمي في أعماق قلوبنا المملوءة بالحنين، العامرة بالأشواق.
تعود كلما اشتاق الفؤاد لشيء من الماضي -رغم الفارق الكبير بينه وبين الحاضر- أو جَرَتْ أحداث في الحياة الحاضرة، أو حلت به حالة سبق ما يشابهها، أو حَنَّ القلب لحالة تملؤها البراءة في لحظات غمرتها السعادة النفسية، وأوقات خلت منها المسؤولية وعم فيها السرور، وامتلأت نسماتها بعبير الزهور فاتسعت الابتسامة وتقاطرت دمعات السعادة.
تلك الحياة النقية العطرة نسبة لظروفها، ترى!! هل تعود يوماً ما! وكيف يمكن ذلك! وهل لو عادت نكررها كما كانت، أم نطورها بحسب زمان وجودها! وهل يمكن للزمن أن يدور عكس عقارب الساعة يوماً ما كما نفعل بها عند إعادة ضبطها! وهل نستطيع اختيار اليوم والساعة التي نريدها منها كما نفعل بعقاربها!
هيهات! هيهات! أن يتكرر أو يتشابه شيءٌ مما فات!!! إنما هي أفكار كثيرة تتصارع داخل العقل الباطني، وتخيلات تتسابق في حُجُرَاتُ التفكير ألا إرادي.
خلجات متنوعة تتوالى على القلب، ونظراتٌ بعيدةٌ تبدو قريبةً من الفؤاد، تَحِنُّ وتَئِن بين دورة الزمان واختلاف المجتمعات، وتغير العادات، وتجاهل التقاليد، واحتمالات عديدة متوقعة لمستقبل في علم الغيب، وبين قلم حائر بين كلمات التدوين وعبارات أمانة التوثيق، عاجزاً عن إجادة وصف المشاعر، ورسم حقيقة الأحاسيس.
تظل الحقيقة التي لا مناص منها، أنه لا عودة لما مضى بما كان، ولا بأفضل مما كان، وأن الأهم الآن، هو أن نفكر دائما في مواكبة العصر، والنظر للمستقبل بأفضل مما هو عليه الآن، وأخذ العبر من الماضي، وتجاوز عثرات حاضر الزمان، ومستقبل الأيام، والكف عن النواح لما كان أو يجري أو ما قد يكون! وأن ننظر بعمق على مد البصر بعيون ثاقبة، ونفس هادئة، وقلوب مطمئنة.
نزرع الأمل في كل مكان، ونبني مستقبلاً يذخر بالأخلاق الحميدة والقيم السديدة، والتقاليد المجيدة والعادات الحسنة. يمتلئ بالسعادة النفسية، والطمأنينة القلبية، والمحبة الجماعية، والعلاقات المجتمعية الوطيدة.
نُقوي عُرا الأمن والأمان لنا ولأجيالنا القادمة، ونُوَثِّقَ عراقة تاريخ أسلافنا، ونَدْعُوَ لهم على ما قدموه لنا رغم صعوبة معيشتهم، ونُحْيِ تراثنا القديم، ونعلمه لأجيالنا ليكون لهم قاعدة قوية ودافعاً رئيسياً للمجد والعلا، وننشر أمجادنا للعالم حتى يفهمها الجاهلون بها، ونحافظ على الجديد.
نكون قدوة حسنة لأجيالنا، متمسكين بتعاليم ديننا الحنيف، ومتعلقين باليقين برب العالمين، وبمحبة نبيه الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم.
أستودعكم الله تعالى حتى لقاء آخر بإذنه تعالى.