إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة “حُقْبَتْ التَنْشِئَة[1]”

الجزء 1/4

بيوت مكة المكرمة العريقة، وخاصة التي كانت تحيط بالمسجد الحرام قبل عمليات التوسعة، توارث فيها الأبناء والأحفاد العلم والمحبة والتسامح، وتميزت تلك البيوت بأهميتها التاريخية والثقافية والاجتماعية، لما تحمله من صدى السنين، وروائع الذكريات الجميلة، وبهجتْ الأشجان الممتعة، خَرَّجَتْ العديد من العلماء والفقهاء والشخصيات المرموقة والمثقفين والأدباء والشعراء وغيرهم، الذين كان لهم عظيم الأثر في مسيرة التطورات المعاصرة، وخلفوا أجيالاً تستطيع أن تواكب مسيرة الحياة والقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحقيق المزيد من الأهداف والطموحات.

في تلك الحقبة القديمة الماضية عشنا واقعاً ملموساً، وشاهدنا أمام أعيننا رجالاً كُثْرٌ من شتى الجنسيات ومختلف اللغات لم ينالوا الشهادات العليا، ولم يجلسوا على مقاعد مدرجات القاعات الجامعية، ولكنهم أسلموا للواحد الأحد، وأتقنوا اللغة العربية، درسوا على أيدي مدرسين علماء عن علم وجدارة في شتى العلوم الدينية واللغوية والنحو والصرفوبعض الدنيوية.  تخرجوا من مدرسة الحب والنقاء، وطلب العلم بالرحيل والترحال من بلد لآخر رغم مشقة السفر وعناء المسيرة في ذاك الزمان. امتلأت نفوسهم صفاءً وورعاً، وعقولهم علما وفهما، ونفوسهم محبة وصفاءً.

استقر ببعضهم المقام في مكة المكرمة -مهبط الوحي ومنبع الرسالة السماوية- توطدَّت علاقتهم بالمجتمع المكي، وتكاتفت أيديهم، وتقاربت نفوسهم، فَعَلَّمُوا وتَعَلَّموا، وَدَرَسُوا وتدارسوا وَدَرَّسُوا، وكونوا مجتمعاً متجانساً متحداً ومتحاباً ومضحياً ومتسامحاً، يحملون نفوساً هادئة مسالمة، وروحًا متواضعة كلها شغف وحب، لهم من السلوك المثالي العام والخاص ما لا يمحوه الزمن، ويبقى شعاعاً يضيئ التاريخ.

تفانوا في نشر العلم إلى جانب العمل حتى لا يكونوا عالة على غيرهم، وبعضهم تفانا في خدمة ضيوف بيت الله الحرام، فنالوا الشرف العظيم واُخْتُصُّوا بإحدى المزايا الخمس المنفردة بهم، وخلفوا أجيالاً أمثالهم، وغرسوها في نفوس أحفادهم ليواصلوا مسيرة شرف الخدمة والمحافظة على تلك المنزلة الرفيعة التي أنعم بها صاحب الفضل سبحانه وتعالى عليهم.

تغيرت الأجيال، واختلف الزمان، ولم يعد لهؤلاء الأحفاد نصيب من تلك المزايا والمنزلة الرفيعة. هي طبيعة الحياة، تغيرات ومتغيرات، وأجيالاً تتوالى تعاصر زمانها، وتؤدي أدوارها.

سيرة وترجمة وقراءة حياة مثل هذه الشخصيات من الرجال والنساء لها قيمة معنوية كبيرة، وأهداف عديدة، وسجل تاريخي عتيق، وحقائق كثيرة مخفية يجهلها الكثير في هذا العالم الفسيح، ويغيب تاريخهم عن الأجيال الحاضرة وقد تنساها الأجيال القادمة، إذا لم نحافظ عليها ونوثقها ونورثها لهم، حتى وإن تغيرت معالمها الحقيقية، أو تحولت مسمياتها، أو تبدلت مفاهيمها.

نَشَأت خلال لحظات من تلك الأيام الخوالي بين أجداي وقليل من جيلهم وجيل الوالد والجيل الذي تلاه -أربعة أجيال مختلفة الآراء، متفاوتة المفاهيم، متنوعة الثقافات، متحدة الطموحات، متشابكة الأيدي- بكل ما كان فيها من مفارقات اجتماعية ومجتمعية نوعاً ما، تملؤها ذكريات جميلة، ويعيش فيها مجتمع متكاتف، وتسير بها حياة طبيعية، وتكافل مجتمعي عجيب وبسيط.

عَلِمْتُ الكثير، وهو قِلَّةُ القليل من العلم والمعرفة، وتَعَلَّمْتُ أشياءً عديدة من أجدادي ووالديَّ وأحبابهم وجيرانهم وأساتذتي وغيرهم -يرحمهم الله جميعاً- ولا أزال لا أجد حرجاً ولا عيباً من أن أتعلم المزيد بنفس راضية وقناعة تامة من أيِّ شخص كان سنه أو حالته، وأُقِرُّ بعدم علمي أو عدم معرفتي لما أجهله دون إحراج ولا حرج.

هكذا تعلمنا بالمحبة والحنان، بالأدب والاحترام، بالتآخي والتعاون المنتشر في غالبية المجتمع الحجازي القديم في ذلك الزمان، مع وجود العقاب والحرمان لتحقيق العِلْمِ والفهم وحسن الإدراك والأمن والسلام، وليس للانتقام، ولا أخاله إلا كذلك لمعظم السكان رغم مرور الأيام، واختلاف الأجيال والزمان، ولا يخلو من المبتعدين عن ذلك.

هذه البيئة التي نشأنا فيها، وهذا المجتمع الذي كنا نعيش فيه، وهذه بعض من التقاليد الحسنة، والعادات المستحسنة، والمفاهيم الجميلة التي كانت ديدن الغالبية من طبقات أفراد ذلك المجتمع الحجازي القديم على اختلاف جنسياته ولغاته وعاداته وتقاليده التي انصهرت في بوتقة واحدة، وأبرزت حياة المحبة المشتركة لعصور بعيدة.

نحن من ذلك الجيل الذي لا يزال يحمل في قلبة محبة عظيمة للوالدين وتقدير كبير لهما. ذاك الجيل القديم، جيل المحبة والتسامح، والتآخي والصفح والمودة، نَبِيتُ وننسى زلات وهفوات بعضنا، ونستيقظ على الابتسامة والصلاة على الحبيب، ونسير متشابكي الأيدي.

للمعلم أو المدرس هيبة كبيرة واحترام شديد وتقدير عظيم، وللعِشْرَة قواعد وتقدير منظم، وللجار احترام وتفضيل. نشأت في ذلك الجيل وترعرعت بين قلوب رجاله ووعطف وحنان سيداته، جزاهم الله عنا كل خير وأحسن إليهم وجعل جنة الفردوس مثواهم، اللهم آمين.

في رعاية الله حتي نلقاكم في الجزء الثاني.


[1] حُقْبَتْ التَنْشِئَة عنوان لموضوع مدون بالصور التوضيحية في الفصل السادس من المجلد الثاني “الرحيل للماضي” من مجلدات “مجموعة التراجم التحليلية التداخلية المشتركة”

4 ردود على “همسة “حُقْبَتْ التَنْشِئَة[1]””

  1. عندما أقرأ أي مقال دائماً أسأل نفسي هذا السؤال. ما هو الجديد الذي أضفته لمعلوماتي وثقافتي؟؟
    فإذا لم أجد الجواب الشافي فإنني إما أنني اتهم نفسي بعدم المقدرة على الفهم والاستيعاب، أو أن الموضوع لم يصل بي الى اشباع رغبتي ونهمي الذي دفعني لقراءته،
    أو أنني احتاج بعض الوقت لإعادة القراءة بتمعن وتركيز، وفي كل الأحوال لا يتعدى الأمر الإعجاب بجمال العبارة وروعة الأسلوب وجزلة المعاني ،،
    فأدعو الله بالتوفيق لكل جهد صادق وعمل هادف، وكل عام وانتم بخير ،، حفظكم الله وبارك فيكم.

  2. جزاك الله خيرااااعلي الجهد الصادق والعمل الهادف وعلى اهتمامكم بضيوف بيت الله الحرام وعن المشاعر النبيلة الكريمة آلتي تستطر فيها أجيال رائعة عاشت ونمت وكبرت وترعرعت وسجلت التأريخ لإجيال قادمة وتقدير كبير لجيل التسامح والتعاطف والمودة

  3. ما أجمل مشاركاتك لنا مقتطفات من مؤلفاتك لنعيش معك بعضا من روعة كتابتك. ابقاك الله وعافاك واطال عمرك.

  4. جيل عظيم تعلمنا منه الحب والتآخي والاحترام .. أطال الله في عمركم وامدكم بالصحة والعافية..

التعليقات مغلقة.