إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة ” حُقْباَتُ التَنْشِئَة”

الجزء 4/5

كذلك نتعلم الحساب ونحفظ جدول الضرب الصغير (1-10) والكبير (11-20) ونستخدم عقولنا وأقلامنا في كل العمليات الحسابية والعملية مما جعل عقولنا حاضرة، وآذاننا صاغية، وقلوبنا واعية، وأفكارنا متجددة، وطموحاتنا واسعة.

كنا نجلس أربعة طلاب في كل ماصة شبه متلاصقين في فصل أو غرفة متروسة بالطلاب، بدون مراوح ولا مكيفات والعرق يا سلام! وبعضنا يحضر معه قطعة من القماش ليمسح بها مقد الماصة من التراب أو الغبار قبل جلوسه عليها حتى لا يصبح مكان الجلوس بالثوب أسود وشكله سيئ، ثم أصبحنا نجلس كل اثنان معاً في المرحلة المتوسطة والثانوية.

تبدل الحال فكان البعض منا يحضر معه سجادة الصلاة يلف بها كتبه ليسهل حملها ونقلها ويضعها على مقعد الماصة لتحمي ثوبه وثوب زميله من العلامة السيئة[1] ويصلي عليها الظهر جماعة في المدرسة بعد الحصة الخامسة.

أنا من ذلك الجيل الذي حمل على رأسه لوح العيش وصينية الفَتُوتْ والغُرَيْبَة والمعمول والعيش باللحم الذي كان يُعجن ويُخَمَّرْ وَيُجَهَّزْ في البيت. حملته على رأسي ذهاباً وإياباً للفران في الفرن العام الذي كان موجود في المدعى قبل طلعة الراقوبة عن يسار المتجه للمعلاة، لخبزه وليكون جاهزاً لتناوله وإهداء بعضه، قبل أن تنتشر المخابز الآلية، وتكف السيدات عن عجن الخبز اليومي وبقية أنواع المعجنات البيتية اللذيذة والممتعة الأخرى. 

الجيل الذي كان يحلق رأسه بالمكنة اليدوية (0) صفر، أو بالموس عند الحلاق بنصف ريال، حتى وصلت خمسة ريال للبطران، ومن العيب تربية شعر الرأس، يسموها (تَوَلَيتَهْ) -شوفوا الواد دّهْ ما يستحي مُرَبِّ توليته- سمعة سيئة، وإذا ما حلقت رأسك، المدير يرسلك مع الفراش لأقرب حلاق من المدرسة يحلق لك على حسابه ثم يُعيدك للمدرسة وما أحد يقدر يعارضه.

الجيل الذي كان يفرح فيه الفرد منا بمشاهدة الطائرة وهي تطير مارة من فوقه أو حوله، فيلوح لها بيديه في سعادة وسرور لمشاهدتها ومُحَيِّياً رُكَّابَهَا، يشعر وكأنهم يرونه أو يسمعون هُتَافاتِه وتحياته لهم.

تخيل هذه السذاجة كيف كانت في ذلك الجيل!! وكيف أصبحت الأجيال المعاصرة!

الجيل الذي يحترم الشرطي ويحييه ويقدره ويُسَرُّ برؤيته بتلك البدلة التي يرتديها، رغم أنه قليل أو نادر منهم من يعرف القراءة أو حتى كتابة اسمه.

ننتظر الفرقة الموسيقية التي كان يقودها الضابط عم[2] طه خسيفان -يرحمه الله- وهو راكب على جواده الذي كان يرقص على أنغام تلك الموسيقى وهي تسير من مقرها بأجياد للقشاشية، بعد صلاة العصر، ننتظرها بفارغ الصبر وهي تعزف التحية الوطنية، ثم تعود أدراجها لمقرها بأجياد قبل الغروب. 

انتقلنا للمرحلة الجامعية بجامعة القاهرة، كلية الهندسة وتأقلمنا مع الحياة الاجتماعية الشاسعة البعد عن حياتنا ومجتمعنا المكي والحجازي، وعشنا فيها حياة مجتمعية جديدة ومتغيرة تماماً عن حياتنا حتى نستطيع أن نواكب الحياة العصرية في ذلك الزمان، نستحصل كل ما يمكننا من العلم والمعلومات ما يساعدنا على مواكبة العصر، ونقتني الكتب والمراجع وكل المستلزمات ونحافظ عليها كعيوننا.  

كنا نجلس في مدرج الكلية الخشبي (500) خمسمائة طالب وطالبة متجاورين وأحياناً متلاصقين لكثرة العدد، نجلس على ماصات خشبية كل (6-10) أشخاص معاً بدون مراوح ولا مكيف، والروائح يا سلام متنوعة. لا يوجد ميكرفون للمحاضر والضوضاء وحركة الطلبة والطالبات تسبب المزيد من الضجيج فلا تسمع شيئا.

المحاضر يتكلم ويكتب ويمسح السبورة حتى ينتهي موعد المحاضرة ويغادر القاعة ولا يكترث لأي شيء. في المختبر (40) طالب وطالبة واقفين، يحضر المحاضر كزائر أو ليؤنب المقصر أو المتغيب عن المختبرات السابقة ويتركنا للمعيد ليكمل معنا بقية الوقت ونحن نجري بعض التجارب المخبرية، أو نحل بعض المسائل الرياضية، أو نكمل بعض الرسومات الهندسية ولا يهمه من فهم، ومن لم يفهم فعساه ما فهم، يعيد السنة  

الشاطر إِّلِّي يقدر يجلس في الصفوف الأمامية حتى يقدر يسمع ويكتب ويفهم، والبعض يدفع مقابل مادي لمن يحجز له مكان في المقاعد الأمامية.

نُكَوِّنْ زمالات في مجموعات (2-4) ونجتمع بين المحاضرات بنات وأولاد في حديقة الأورمان -ميدان الدقي- المجاور للجامعة، نتبادل المذكرات ونتناقش في المحاضرات، ونراجع حل التمارين، ونتذاكر بعض الدروس ونحن من جنسيات وعادات وتقاليد وبيئات مختلفة، تجمعنا اللغة العربية وحب العلم.

ورغم ذلك، ترتفع بيننا روح المحبة، ويسود الوئام، ويتسع التوافق، ويبتعد الحسد، وينعدم الحقد والغيرة، تفانياً في كسب العلم والتَعَلُّم.

أما في جامعة الرياض فكان الجلوس في غرف مكيفة وشبابيك واسعة وإنارة طبيعية، على كرسي خشبي بذراع أيمن عريض ثابت أو منعطف للأمام، يوضع عليه الكتاب أو الدفتر لتكتب وتتابع المحاضر، بقية الكتب والأدوات مبعثرة تحت المقعد نفسه بدون غطاء، وقلما يزيد عدد الطلاب في المحاضرة وفي المختبر عن (35) طالب.

للطالبات فصول ومباني مستقلة عن البنين وجهاز تعليمي عن طريق الشاشات والقليل مباشر، ولهن جهاز إداري ملحق بهن، ومحظور على الطلبة الاقتراب منها.

الكتب والمراجع متوفرة في مكتبة الجامعة.

في رعاية الله حتي نلقاكم في الجزء الأخير منها.


[1] خطوط مسودة متعرجة من الأتربة داخل شبه دائرة بحسب طريقة الجلوس تمتزج بالعرق وتتشكل بحسب الحركة اللاإرادية في مؤخرة الثوب وتشكل منظر سيئ واتساخ للثوب غير لائق. وكانت تسمى “قلقه” أو البصمة السوداء.

[2] عم كلمة احترام وتقدير لمن هو أكبر منك، من العادات التي تعلمنا في طفولتنا ولا نزال نطبقها.

3 ردود على “همسة ” حُقْباَتُ التَنْشِئَة””

  1. ماشاء الله تبارك الله ربنا يحفظك ويبارك في شخصكم الغالي الباشمهندس إبراهيم جستنية كما حديثك رائع جدا لأنني نتذكر كل حرف وكلمة وجملة تتحدث فيها عن الجيل الرائع المملوء بالحب والتقدير والاحترام لكل من حوله جيل العظماء الذين تماما منه المثير ويمفي احترامك كلل من حولك ويكفي عقولهم النيرة التي أضاءت لكل الأجيال نور العلم والمعرفة ووضعت قواعد كيفية بناء الشعوب والمجتمع الذي ينهض بامته ووطنه

  2. جميل تأريخ هذه الحقبة .. نحتاج الى توثيقها للأجيال الحالية التي لا تعرف سوى التكنولوجيا والراحة وأفضل الخدمات ..
    رغم أن المدنية تدور حول محور واحد..
    دمتم ودام قلمكم ..

التعليقات مغلقة.