إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة “عن تطورات طرق حل الخلافات وفض المنازعات[1] (1)”

نسير اليوم في تعايش اقتصادي متناغم بسبب تلك التطورات المتلاحقة التي تتطلب التطوير الفكري والتنظيمي والإداري، فالمحاكم المتخصصة للقضايا المستحدثة والمتنوعة ستوفر عائداً اقتصادياً كبيراً لا ينحصر في الجانب المالي فقط، بل ستتعاظم معه هيبة القضائيان العام والخاص وستزداد الثقة بهما، ناهيك عن عامل الزمن وتوفير الكثير من الجهد لحسم كثير من تلك القضايا الاقتصادية العالقة والشائكة في دهاليز القضاء العام.

        الاستثمارات بكل أنواعها واختلاف درجاتها تمثل كماً كبيراً وكيفاً عظيماً ونظرة واسعة بأساليب متعددة تحقق الأمن والسلامة والعدل والعدالة والمساواة لجميع الأطراف التعاقدية.

        الصلح والتوفيق والتحكيم، أحد وسائل التعامل المدني في المجتمع القديم في العصر الجاهلي، وهو قضاء خاص. القضاة والمحكمون فيه ليسوا تابعين للسلطة القضائية بالدولة، ويحق لأطراف النزاع اختيارهم أو عدم قبولهم. أقر الكثير من قواعده وقوانينه الدين الإسلامي في عدة آيات منها، قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} الآية (58) النساء، وقوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا} الآية (128) النساء. وقوله تعالى {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الآية (10) الحجرات، دون تفرقة ولا قبلية ولا طبقية، وطبقه الكثير في المجتمع الحديث وخاصة العربي، إذ لا يزال ساري المفعول والتفاعل في كثير من القضايا والخلافات وخاصة الأسرية والقبلية، والتجارية أحياناً عن طريق حكماء أو وجهاء الناس الموثوق بأمانتهم وعدلهم وحكمتهم، وفقاً للقواعد والأعراف شبه المتشابهة، مع بعض الاختلافات في العادات والتقاليد المتبعة في كل مجتمع.

        التطورات المتلاحقة على المجتمعات الدولية وكثرة التخصصات وتنوع الأعمال أدى للكثير من القضايا المتشعبة، وأقحم القضاء العام -السلطة القضائية المرتبطة بالدولة- في كثير من الهموم والمسؤوليات، وأطال دهاليز المحاكم العامة، فبرزت الحاجة الملحة للعودة للطرق القديمة في حسم الخلافات وفض المنازعات وإدخال التطورات المناسبة عليها لتتوافق مع عصرها، فبدأت عمليات تطوير للقواعد وتنظيم الأسس وتوثيق الخلافات والقضايا وحفظها في سجلات خاصة وتطوير بنودها ومفاهيمها لتواكب العصر.

حظيت التطورات الحديثة لطرق حل الخلافات وفض المنازعات مكانة عالية وموقعاً بارزاً في الفكر القانوني والاقتصادي على المستوى العالمي، وما يشهده العالم منذ ما يزيد عن نصف قرن من حراك فقهي وتشريعي شرعي وقانوني لتنظيم تلك التطورات ضمن اطار ملاءم وأدوات فاعلة تحقق العدالة وتصون حقوق جميع الأطراف على حد سواء حتى أضحت أمراً ملحاً لتلبية متطلبات الكثير من الأعمال الحديثة التي لم تعد المحاكم العامة قادرة على التصدي لها بشكل منفرد.

        الصلح والتوفيق والتحكيم قضاء خاص يستمد صلاحياته من موافقة أطراف النزاع عليه وفقاً للشروط الأساسية والقواعد العامة المتعارف عليها، وهي النزاهة والعدالة والمساواة والأمانة وما يندرج تحتها من شروط وإجراءات تكميلية، وهو قضاء نافذ عالمياً في كثير من دول العالم وبعض الدول العربية، وله مؤسسات خاصة غير حكومية، تُقِرُّه كثير من الدول وتساهم في تنفيذه بالقوة الجبرية إذا تطلب الأمر ذلك وفقاً للاتفاقيات الدولية والإقليمية.

        نشر ثقافة الصلح والتوفيق والتحكيم في المجتمع وتطبيق قواعده وأسسه في العقود الخاصة والالتزامات العامة يساهم في التغلب على الكثير من الخلافات، ويوضح العديد من النقاط المتفاوتة المفاهيم محلياً أو دولياً وفقاً للنظام المتفق عليه ونظام الدولتين التي يجري فيها التحكيم أو تنفيذه.  

        أقسام التوفيق والتحكيم الرئيسية تتضمن الأُسري والطبي والتجاري بكل تخصصاته، والهندسي والفني بشتى مجالاته، ولكل منهم قوانين خاصة ولوائح متجددة وأعراف مختلفة، ومحكمين متخصصين على مستوً عال من الخبرة والكفاءة العلمية والمهنية.

        التوفيق والتحكيم عدة أنواع، له أقسام رئيسية وفرعية، وله العديد من المزايا والدوافع لاستخدامه واللجوء إليه عوضاً عن القضاء العام، ويحتاج لخبرة واسعة ومعلومات كثيرة وكفاءة عالية، وحكمة جيدة وحنكة ممتازة، خاصة إذا كانت القضية كبيرة، أو أوجه الخلاف والنزاع فيها متشعبة.

        الهدف من إنشاء مركز أو مقر خاص يرعى تلك التطورات لفصل الخلافات وفض المنازعات بطريقة تتناسب مع الأنظمة القضائية والقواعد القانونية وتستفيد من الأعراف والتقاليد المتعارف عليها وفق أسس بينة ومفاهيم واضحة، وجمع الكفاءات والخبرات المتخصصة في مجالات متعددة تحت مظلة واحدة، والمساهمة في مساعدة القضاء العام بالقضاء الخاص، وتخفيف الضغط عنه، وتيسير الأمور على المتنازعين، وحسم المنازعات مهما كبر حجمها أو تشعبت تخصصاتها في زمن قياسي، بكفاءة عالية، وقناعة تامة.

        يعتبر دار القرار (مركز التحكيم التجاري لدول الخليج العربية) أحد هذه المراكز المهمة التي أنشئت من أجل ذلك، ويختص المركز بالنظر في المنازعات التجارية بين مواطني دول مجلس التعاون، أو بينهم وبين الغير، سواءُ كانوا أشخاصاً طبيعيين أو معتبرين في المنازعات التجارية الناشئة عن تنفيذ أحكام الاتفاقية الاقتصادية والقرارات الصادرة تنفيذا له، إذا اتفق الطرفان كتابة في العقد، أو في اتفاق لاحق على التحكيم في إطار المركز.

        نلتقي إن شاء الله في مقال آخر لنكمل فيه ما بدأناه[1].       

ملاحظات:

  1. تم نشر نص هذا المقال عام 1434هـ، 2013م.
  2. سبق نشر معلومات إضافية عن القضاء الخاص في مقالة سابقة عام 2009م، تحت عنوان “اتقان الوسائل البديلة” وهي موجودة في الموقع. 
  3. من الممكن استكمال البحث والكتابة في هذا البحث.
  4. من يرغب في التفاصيل يمكنه الرجوع لمطبوعاتي الثلاثة من “موسوعة القضاء والتحكيم” أو الكتب المماثلة أو المختصين. 

[1] لم يتم مواصلة التدوين في المجلة لهذا البحث. 


[1] تم نشرها في مجلة الغرفة التجارية الصناعية بمكة المكرمة العدد (18) مارس 2013م، ربيع الثاني 1434ه، صفحة (42).

ردّ واحد على “همسة “عن تطورات طرق حل الخلافات وفض المنازعات[1] (1)””

التعليقات مغلقة.