إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة ” حُقْبَاتُ التَنْشِئَة[1]”

الجزء 2/4

نسير للكُتَّابْ ثم للمدرسة ذهاباً وإياباً على أقدامنا بلا توصيل ولا مرافقة الأب أو الأم أو الشغالة أو السائق، بلا خوف علينا من حرارة الشمس وشدة الصيف طوال تسعة أشهر سنة دراسية كاملة.

نتقاسم مع زملائنا اللقمة الهنية والمصروف اليومي في الفسحة المدرسية بهللات قليلة وقروش يسيرة، ونتشاور معاً في أسرارنا الطفولية وحكاياتنا اليومية، ونتشارك ضحكاتنا الطفولية البريئة.

نحمل بيدنا اللوح الخشب للكُتَّاب، ونمسح الخطأ بقطعة من القماش القديم (الخرقة) ثم أصبحنا نحمل الكُتُبْ والدفاتر للمدرسة على رؤوسنا، في سجادة ملفوفة نفرشها على مقعد الدراسة حتى لا يتسخ الثوب من الجلوس الطويل على خشبة الماصة الجافة ويعمل قَلَقَة[2] في الثوب وما تقدر تلبسه في اليوم التالي قبل غسله، وليس في شنطة آخر موديل يحملها السائق أو الخادمة، ونجلس على خشبة ماصة سداسية ورباعية الأفراد، وليس على كرسي فردي مريح وطاولة أنيقة ومكان فسيح.

دخلنا المدرسة بالمرسمة، ثم القلم الخشب والحبر الصيني ثم بالقلم الريشة، ثم الحبر السائل في قارورة محكمة مع القلم بالريشة المتغيرة بحسب نوع الخط، ولم ندخلها بقلم آخر موضة، ولا بالهاتف الجوال والآيباد. استعملنا الخرقة كممسحة للأحرف والكلمات الخطأ، وللسبورة.

لم نشكو يوماً من طول المنهج الدراسي، ولا من كثرة الواجبات المنزلية، أو تكرار كتابتها، ولا من شدة الحر وتساقط العرق على وجوهنا ونحن في الفصل، استخدمت الدفتر والمروحة الخصف اليدوية للتهوية وتجفيف العرق، وليس في مكيف على أعلى درجة البرودة.

لم نقاطع المدرس، ولم نرمه بالطباشير أو نستهزئ به، ولم نتذمر من طول الحصة أو الخروج من مادة الدرس لمادة أخرى، بل نقدره ونحبه، وإن قسى علينا، ونُقَبِّلُ رأسه وأحياناً يده، ونُصْغي إليه باهتمام وعناية، ونستوعب منه كل حرف يقوله بتركيز شديد، وفهم عميق.

استخدمنا الخرقة ثم الكيس المحشي بالخروق ثم قطعة من الإسفنج لمسح الكتابة بالطباشير الأبيض والملون من على السبورة. الحصة ليست مادة واحدة، بل تربية مجتمعية وعلم ومعرفة وتبادل محبة.

أنا من الجيل الذي استخدم عتبة المجلس أو البسطة كطاولة أو مكتب للمذاكرة، ثم استبدلتها بتنكة القاز وهورية الحماط، قبل أن يكون عندي مكتب أنيق وكرسي مريح.

قرأت وكتبت على ضوء اللمبة التنك والقمرية ثم الفانوس والإتريك، وكتبت بالمرسمة ثم بالقلم الخشبي والحبر الصيني السائل قبل وصول القلم الريش، ثم القلم السائل ثم الجاف، المهم أن نتعلم ونفهم وندرك ونطبق بعلم وفهم واحترافية. 

لا أعتقد أن أحداً من أقراني نجا من العُقوبة في الفصل أو خارجه أو في الإدارة بالوقوف على قدم واحدة، أو القَرْمَعَة على الرأس، أو قرصة الأذن، أو فرص الأصبعين بين المرسمة، أو شحطتين من العصاية أو الخيزرانة، أو عَلْقَتْ السقا، أو القرمعة على خلف اليد بحافة المسطرة، أو علقة في الإحرام أو الفلكة، أو الحرمان من الفسحة.

ليس انتقاماً ولا ظلماً من المدرس للطالب، لأنه لن يستفيد لشخصه شيئاً من معاقبة الطالب، ولن يخسر شيئاً لنفسه إن تركه دون أن يعاقبه على الخطأ، وإنما العقاب لِمَصْلِحَتْ وَحَيَاتْ الطالب المستقبلية، والتي أخرجت أجيالاً يُفْتَخَرُ بها في شتى المجالات.

ورغم ذلك، لا أحد يستطيع أن يشكو المدرس لوالده حتى لا ينالَ عقاباً أشد، لأنه مقتنع بأن المدرس ليست له أي مصلحة شخصية من معاقبة ابنه، بل يعاقبه على الخطأ حتى لا يكرره، ويعلمه الصواب حتى يكون أهلاً للمسؤولية والأمانة التي ستناط به يوماً ما، وقد كان ذلك ولله الحمد.

لم يَسْتَذْكِروا لنا أولياء أمورنا دروسنا، ولم يكتبوا لنا واجباتنا المدرسية، بل جعلونا نتعلم الاعتماد على أنفسنا تحت مراقبتهم، وإرشادات المدرسة والمدرس. جيل أكتب القطعة عشرة مرات، وإذا أخطأت تعيدها عشرين مرة، وإذا ما كتبتها ممكن تعاقب بالضرب والوقوف طول الحصة على قدم واحدة، أو وقوفك عند باب الفصل من الخارج حتى يشوفوك كل طلاب المدرسة والمدرسين وممكن المدير يمر ويشوفك، وعندها يا ويليك.

حفظنا جدول الضرب الصغير والكبير من الغلاف الخلفي للدفتر، وتعلمنا الكثير من الأمثلة وعبارات الحكم المكتوبة أيضاً على الغلاف الأمامي أو الخلفي له، أو في ساحة المدرسة.

أتقنا فهم الجدول الكيميائي، وحفظنا أسماء ومصطلحات وتقسيم عناصره ومحتوياتها، وتعلمنا طريقة تطبيق استخدام جدول اللوغرثمات الرياضي.

كنا نحل المسائل الرياضية على السبورة أمام الطلبة والمدرس يراقبنا، لضمان عدم غِشِّها، والتأكد من فَهْمَكْ للمادة وقدرتك على تحليل المشكلة، وليس حِفْظَكْ للطريقة، وتحضيرك للخَطَاَبَة في المستقبل.

كنا ننجح بدون دروس تقوية ولا مدرس خصوصي، واختبار في كامل المنهج من الجلدة للجلدة، وبدون أي بدائل أو خيارات بالإضافة للمعلومات العامة.

أترككم في رعاية الله حتي نلقاكم بمشيئة الرحمن في الجزء الثالث.


[1] الصحيح (حُقْباتُ التَّنْشِئَة) وليست (حُقْبَتْ التَّنْشِئَة). شكراً لأخي الكريم على هذا التصحيح اللغوي. -جَلَّ من لا يَسْهُو-

[2] القَلَقَة هي البقعة أو اختلاف اللون المؤثر والدال على عدم النظافة. 


همسة “حُقْبَتْ التَنْشِئَة[1]”

الجزء 1/4

بيوت مكة المكرمة العريقة، وخاصة التي كانت تحيط بالمسجد الحرام قبل عمليات التوسعة، توارث فيها الأبناء والأحفاد العلم والمحبة والتسامح، وتميزت تلك البيوت بأهميتها التاريخية والثقافية والاجتماعية، لما تحمله من صدى السنين، وروائع الذكريات الجميلة، وبهجتْ الأشجان الممتعة، خَرَّجَتْ العديد من العلماء والفقهاء والشخصيات المرموقة والمثقفين والأدباء والشعراء وغيرهم، الذين كان لهم عظيم الأثر في مسيرة التطورات المعاصرة، وخلفوا أجيالاً تستطيع أن تواكب مسيرة الحياة والقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحقيق المزيد من الأهداف والطموحات.

في تلك الحقبة القديمة الماضية عشنا واقعاً ملموساً، وشاهدنا أمام أعيننا رجالاً كُثْرٌ من شتى الجنسيات ومختلف اللغات لم ينالوا الشهادات العليا، ولم يجلسوا على مقاعد مدرجات القاعات الجامعية، ولكنهم أسلموا للواحد الأحد، وأتقنوا اللغة العربية، درسوا على أيدي مدرسين علماء عن علم وجدارة في شتى العلوم الدينية واللغوية والنحو والصرفوبعض الدنيوية.  تخرجوا من مدرسة الحب والنقاء، وطلب العلم بالرحيل والترحال من بلد لآخر رغم مشقة السفر وعناء المسيرة في ذاك الزمان. امتلأت نفوسهم صفاءً وورعاً، وعقولهم علما وفهما، ونفوسهم محبة وصفاءً.

استقر ببعضهم المقام في مكة المكرمة -مهبط الوحي ومنبع الرسالة السماوية- توطدَّت علاقتهم بالمجتمع المكي، وتكاتفت أيديهم، وتقاربت نفوسهم، فَعَلَّمُوا وتَعَلَّموا، وَدَرَسُوا وتدارسوا وَدَرَّسُوا، وكونوا مجتمعاً متجانساً متحداً ومتحاباً ومضحياً ومتسامحاً، يحملون نفوساً هادئة مسالمة، وروحًا متواضعة كلها شغف وحب، لهم من السلوك المثالي العام والخاص ما لا يمحوه الزمن، ويبقى شعاعاً يضيئ التاريخ.

تفانوا في نشر العلم إلى جانب العمل حتى لا يكونوا عالة على غيرهم، وبعضهم تفانا في خدمة ضيوف بيت الله الحرام، فنالوا الشرف العظيم واُخْتُصُّوا بإحدى المزايا الخمس المنفردة بهم، وخلفوا أجيالاً أمثالهم، وغرسوها في نفوس أحفادهم ليواصلوا مسيرة شرف الخدمة والمحافظة على تلك المنزلة الرفيعة التي أنعم بها صاحب الفضل سبحانه وتعالى عليهم.

تغيرت الأجيال، واختلف الزمان، ولم يعد لهؤلاء الأحفاد نصيب من تلك المزايا والمنزلة الرفيعة. هي طبيعة الحياة، تغيرات ومتغيرات، وأجيالاً تتوالى تعاصر زمانها، وتؤدي أدوارها.

سيرة وترجمة وقراءة حياة مثل هذه الشخصيات من الرجال والنساء لها قيمة معنوية كبيرة، وأهداف عديدة، وسجل تاريخي عتيق، وحقائق كثيرة مخفية يجهلها الكثير في هذا العالم الفسيح، ويغيب تاريخهم عن الأجيال الحاضرة وقد تنساها الأجيال القادمة، إذا لم نحافظ عليها ونوثقها ونورثها لهم، حتى وإن تغيرت معالمها الحقيقية، أو تحولت مسمياتها، أو تبدلت مفاهيمها.

نَشَأت خلال لحظات من تلك الأيام الخوالي بين أجداي وقليل من جيلهم وجيل الوالد والجيل الذي تلاه -أربعة أجيال مختلفة الآراء، متفاوتة المفاهيم، متنوعة الثقافات، متحدة الطموحات، متشابكة الأيدي- بكل ما كان فيها من مفارقات اجتماعية ومجتمعية نوعاً ما، تملؤها ذكريات جميلة، ويعيش فيها مجتمع متكاتف، وتسير بها حياة طبيعية، وتكافل مجتمعي عجيب وبسيط.

عَلِمْتُ الكثير، وهو قِلَّةُ القليل من العلم والمعرفة، وتَعَلَّمْتُ أشياءً عديدة من أجدادي ووالديَّ وأحبابهم وجيرانهم وأساتذتي وغيرهم -يرحمهم الله جميعاً- ولا أزال لا أجد حرجاً ولا عيباً من أن أتعلم المزيد بنفس راضية وقناعة تامة من أيِّ شخص كان سنه أو حالته، وأُقِرُّ بعدم علمي أو عدم معرفتي لما أجهله دون إحراج ولا حرج.

هكذا تعلمنا بالمحبة والحنان، بالأدب والاحترام، بالتآخي والتعاون المنتشر في غالبية المجتمع الحجازي القديم في ذلك الزمان، مع وجود العقاب والحرمان لتحقيق العِلْمِ والفهم وحسن الإدراك والأمن والسلام، وليس للانتقام، ولا أخاله إلا كذلك لمعظم السكان رغم مرور الأيام، واختلاف الأجيال والزمان، ولا يخلو من المبتعدين عن ذلك.

هذه البيئة التي نشأنا فيها، وهذا المجتمع الذي كنا نعيش فيه، وهذه بعض من التقاليد الحسنة، والعادات المستحسنة، والمفاهيم الجميلة التي كانت ديدن الغالبية من طبقات أفراد ذلك المجتمع الحجازي القديم على اختلاف جنسياته ولغاته وعاداته وتقاليده التي انصهرت في بوتقة واحدة، وأبرزت حياة المحبة المشتركة لعصور بعيدة.

نحن من ذلك الجيل الذي لا يزال يحمل في قلبة محبة عظيمة للوالدين وتقدير كبير لهما. ذاك الجيل القديم، جيل المحبة والتسامح، والتآخي والصفح والمودة، نَبِيتُ وننسى زلات وهفوات بعضنا، ونستيقظ على الابتسامة والصلاة على الحبيب، ونسير متشابكي الأيدي.

للمعلم أو المدرس هيبة كبيرة واحترام شديد وتقدير عظيم، وللعِشْرَة قواعد وتقدير منظم، وللجار احترام وتفضيل. نشأت في ذلك الجيل وترعرعت بين قلوب رجاله ووعطف وحنان سيداته، جزاهم الله عنا كل خير وأحسن إليهم وجعل جنة الفردوس مثواهم، اللهم آمين.

في رعاية الله حتي نلقاكم في الجزء الثاني.


[1] حُقْبَتْ التَنْشِئَة عنوان لموضوع مدون بالصور التوضيحية في الفصل السادس من المجلد الثاني “الرحيل للماضي” من مجلدات “مجموعة التراجم التحليلية التداخلية المشتركة”

همسة “عِبْرَة”

القصص التي تجري في الحياة كثيرة ومتنوعة، والعاقل من يحرص على أن يتعلم منها بقدر ما يستطيع، وأن يسعى لاستخلاص العِبَرِ ويستفيد منها، ويقوم بنشرها ليستفيد منها الآخرون، فهي دروس مجانية من تجارب واقعية، وقد يتخلل بعضُها شيءٌ من الخيال لإكمال الدور.

يُحْكَي عن أحدهم قائلا [كان والدي يرحمه الله- يتتبع حركاتي وخطواتي ويوجهني للصواب. كنت في المرحلة الابتدائية، أتذمر من توجيهاته التي لا تنقطع، واتمتم كثيراً بيني وبين نفسي بكلمات غير لائقة، وأتحامل في داخلي عليه، مما يدفعني للمزيد من الأخطاء، لكنني في النهاية أنفذ مرغماً كل توجيهاته.

كنت أعتبرها نوعا من الإذلال والمهانة وحب السيطرة، خاصة عندما أقارنها بتصرفات بعض زملائي من ومع آبائهم وإخوانهم الذين لا يعرفون عن أبنائهم شيئا، ولا يجالسوهم، وقلما يتحدثون معهم. كنت أعتبرها ميزة جيدة وحرية منفردة.

كان يوقظني من أحلى نومي لأداء صلاة الفجر قبل الشروق وقرآءتْ صفحة من القرآن، ويحثني على النوم المبكر، وإطفاء النور وغيرها، وعندما أقول له لم أنته من المذاكرة، يقول، لا تنم بعد صلاة الفجر وأكمل مذاكرتك، يبارك الله لك في كل شيء، وتحصد الكثير.

زملائي يعودون من المدرسة وينامون حتى الغروب، ويبدؤون المذاكرة بعد العِشَاء، والبعض منهم يواصل حتى يعود من المدرسة. الليل نهار، والنهار ليل. قلما يجلسون بين أهلهم ويتقاسمون الطعام بينهم ويتبادون الكلام، أو يسمعون شيئاً مفيداً أو توجيهاً حكيما، كل واحد يفعل ما يشاء.

يلومني لأنني غير مرتب في كل شيء، وابعثر الأشياء وأهملها، وأنام دون أن أغلق ضوء الغرفة الشديد، واترك أنوار الدرج والأسياب مضاءة طوال الليل بدون سبب، وأترك الماء ينساب من البزبوز دون فائدة منه وأنا أتوضأ أو أتسوك أو أغتسل، وعندما أنادي على أخي أو أختي الصغيرة لتحضر لي كأس ماء أو فنجان الشاي، أو أي شيء، يقول لي، قم بنفسك، وتعود على الاعتماد على نفسك، وكن طيب القلب عطوفاً على إخوتك، خاصة وأنك أكبرهم وستكون المسؤول عنهم يوماً ما، واحرص على توفير حياة كريمة لهم دون أن تَمُنً عليهم أو تتعالى عليهم، أو على غيرهم، ولا تغتر بنفسك فالغرور طريق الانزلاق. 

لم أكد أنتهي من هذا الكابوس في مرحلة المدرسة، حتى حل كابوس أكبر وأشد في مرحلة الجامعة. كان أكثر متابعة لخطواتي رغم عمله الوظيفي الصعب، وقلة المادة نسبة لحجم العائلة والظروف الاجتماعية.

كان يعرف مواعيد محاضراتي كلها، فإذا تأخرت ادخل في موال كبير وأسئلة طويلة، ولا أستطيع الكذب حتى لا أنال أشد العقاب. كان يحب الصدق والصراحة، ويتجاوز عن الكثير من الأخطاء، والويل لي إن حاولت الكذب أو المماطلة.

كان يرحمه الله أباً شديداً قاسياً في المنهج التربوي، مرن في التعامل، حنون ومتفاهم، لكنني كنت مراهقاً جاهلاً مغروراً، أقارن بين حالتي وحالة زملائي، وكيف أنهم يسرحون ويمرحون دون رقيب ولا رشيد ولا حساب ولا سؤال!

كنت أنتظر تخرجي من الجامعة بفارغ الصبر والحصول على عمل أو وظيفة تغنيني عن هذا الذل والتحكم وحب السيطرة، وأنال بها حريتي المسلوبة، فأبذل جهوداً مضاعفة.

وأخيراً تخرجت من الجامعة بدرجة جيد جداً، لكنها لم تشفع لي، ولم تفتح المجال أمامي لأحظى بعمل يجلب لي دخلاً خاصاً يغنيني عن المصروف الذي اتقاضاه من أبي، وأدفع مقابله هذا الذل والعناء والألم النفسي والعصبي.

لم تكن الشهادة الجامعية الطريق المُنْقِذ كما كنت أطمح أو أعتقد. لا أزال في منزل والدي دون عمل، ولا أستطيع الخروج إلا بإذن، والعودة في موعد محدد، والويل لي إن تأخرت. كل يوم أسمع فيه نفس الأسطوانة، وتدور في رأسي نفس الأفكار، وتتردد على لساني نفس العبارات وأكثر.

ترى يا ربي!! متى سأتخلص من هذا الذل والتحكم والسيطرة!!! متى أمتلك حريتي دون أن يستجوبني أو يحاسبني أو يوبخني أحد!! لقد مللت هذه الحياة، فإلى متى أظل أتحمل!! هل أترك البيت وأرحل! ولكن إلى أين أرحل! وكيف أعيش! وهل أُفَرِّط في أمي التي ربتني وأخواني الصغار!!     

مر عام على تخرجي الجامعي، لم أترك باباً إلا وطرقته بحثاً عن عمل ينقذني مما أنا فيه، لكنني لم أحصل عليه، حتى جاء ذلك اليوم، ولا أعلم بم أصفه! وكيف اسميه! وفي أي مكان أضعه!

كان يوماً عجيباً بكل ما احتواه من أحداث منذ بدايتها حتى نهايتها. بدأ في الصباح الباكر، أخي الأصغر يناديني قائلاً (شخص على الهاتف يسأل عنك). أخذت السماعة قائلاً (السلام عليكم، نعم، المتحدث مجيباً، وعليكم السلام، أنت حسن، نعم تعال الآن توجد لك مقابلة للتوظيف، سجل العنوان.

كانت مفاجأة مذهلة، سجلت العنوان وبدلت ملابسي وأخبرت والدتي، وقبل أن أخرج اتصلت بوالدي بالهاتف وأخبرته، فلم يضيع الفرصة ليعيد عليً نفس الأسطوانة، ويذكرني بكل الدروس اليومية، وأردف قائلاً (توكل على الله، وبالتوفيق بإذن الله). خرجت متوجها للعنوان وأنا طفشان من كثرة تكرار نفس الموال المزعج ومتمنياً أن أحصل على الوظيفة حتى ارتاح من سماع هذه الأسطوانة اليومية المزعجة.

ذهبت للعنوان، وإذا هو عبارة عن مبنى كبير متعدد الأدوار وحوله حديقة جميلة وقد غمرتها المياه المنسابة، ونافورة صغيرة طفحت مياهها فأغرقت ما حولها، وإضاءة ملونة جميلة لا تزال مشتعلة في وضح النهار، وأدوات الزراعة والنظافة مبعثرة في كل مكان وكأنها في صراع مع بعضها البعض.

توقفت مذهولاً حائراً ومحتارا، أقلب نظري فيما أرى، وأردد مع نفسي، ما هذه الفوضى! وهل ما أراه حقيقة أم خيال! كيف يحدث مثل هذا في مكان كهذا! وماذا أفعل!!   لا أدرى كم مر بي من الوقت قبل أن أجد نفسي مندفعاً للبحث عن صنبور مياه الحديقة وإحكام غلقه، وإلى النافورة وفصل التيار عنها ليتوقف طفح مائها، وإلى مفاتيح الإنارة وفصلها، وإلى أدوات الزراعة والنظافة المبعثرة وجمعها في أحد الأركان، ثم غسلت يدي، وتوجهت نحو البوابة الرئيسية للمبنى، أسال عن اسم الشخص الذي اتصل بي هاتفياً (ع).

دخلت صالة واسعة بها أكثر من عشرة أشخاص منتظرين، وفي صدرها مكتب وموظف، تقدمت إليه وسألته عن السيد (ع)، سألني، هل قدمت لوظيفة عندنا، فأجبته نعم والسيد (ع) طلبني للمقابلة اليوم. أجاب، تفضل استريح حتى نناديك للمقابلة معه.

جلست مع الحضور، وعرفت أنهم جميعا متقدمين لنفس الوظيفة، أعرف بعضهم، وبعضهم لديه شهادات أعلى من شهادتي. جلست استلطف الله في نفسي.

أحسست بأن الوقت طال ولم يُسْتَدْعَ أحد من الحضور منذ حضورهم في الصباح الباكر وحتى تواجدي. فجأة نُودِيَّ عليً، وهنا كانت دهشتي، أنا أخر الحضور وأول المدعوين للمقابلة، شيء عجيب!!

دخلت على غرفة واسعة بها مكتب كبير وطاولة اجتماعات حولها خمسة أشخاص، على رأسها شخص وقور يكبرهم سناً الشيخ (أ) -عرفت اسمه لاحقاً- طرحت السلام، فردوا جميعاً السلام، ثم بادرني الشيخ (أ) قائلاً ألف مبروك يا إبني حسن، لقد تم قبولك في هذه الوظيفة رغم مسؤوليتها الجسيمة، تفضل اجلس مشيراً للكرسي الخالي.      وقفت مذهولاً مما أسمع وأرى، ظننت نفسي أتخيل ذلك، لكنه أعادني لوعي بتكرار ما قال، فجلست على طرف الكرسي لأستوعب مرة أخرى، هل ما أراه وأسمعه حقيقة، أم وهم!! ثم اردف الشيخ (أ) قائلاً، الأستاذ (د) مشيراً على أحدهم سيرشدك لمكتبك ويشرح لك التفاصيل، اعتبر نفسك من الآن مباشر عملك، على بركة الله، وأشار بيده، تفضلوا لأعمالكم.  

وقف الجميع وتوجهوا للخروج من مكتبه، وأنا في ذهول تام، أعادني منه الأستاذ (د) بقوله تفضل معي يا أخ حسن وأخذ بيدي يوقفني.  

خرجنا للصالة، الأستاذ (د) يبلغ الأخ الموجود على المكتب بصرف الحضور، وإبلاغهم أن الوظيفة لم تعد شاغرة، متمنياً لهم التوفيق في مناسبات أخرى، وصحبني لغرفة في صدرها مكتب كبير وأمامه طقم كنب وملحقاته من الأثاث الجيد وجهاز كمبيوتر وشاشة كبيرة، قائلاً، تفضل هذا مكتبك، مشيرا لي بالجلوس خلف المكتب، وجلس هو على الكنبة المجاورة للمكتب، وقبل أن أتكلم بشيء، قال الشيخ مبسوط جداً منك لحسن تصرفك، فكن قدر المسؤولية، هو وضعك في مكان مهم أعلى من الوظيفة التي كانت معلنه، أنا مدير عام الموارد البشرية، ومكتبي في الدور الثاني وتحويلته (212) إذا احتجت شيء كلمني، ووقف للخروج فأوقفته متعجباً!!

لكن كيف الشيخ مبسوط مني وهو لا يعرفني ولم تَحْدُثْ أي مقابلة كالمعتاد، فأخذ الريموت من على المكتب وفتح الشاشة وحولها لقناة معينة أظهرت كل تصرفاتي قبل دخولي للمبنى. تعجبت كثيراً مما رأيت، وأردفت قائلاً، وما علاقته بالوظيفة والمنصب! فأجاب، الشيخ يهتم أكثر بالتربية وطريقة الحياة التي يعيشها الشخص بين أهله، وطريقة تفكيره، والمشاعر والأحاسيس التي تظهر كردود فعل لما يحدث حوله، وكيف تنعكس على مصلحة الشركة، وهذا ما لمسه في الفيلم من خلال كمرة المراقبة الموضوعة خصيصاً لهذا الأمر، كل الذين دخلوا قبلك نظروا لما كان دون أن يفعلوا شيء، وهذا يدل على عدم الاهتمام بما يجري حولهم، والإهمال لما قد ينتج من أخطاء أعمالهم أو أعمال من يعملون تحت إدارتهم.

الشيخ (أ) له فلسفة عجيبة في العمل وطريقة التعامل مع العاملين معه على اختلاف مستوياتهم العلمية والوظيفية، وأعتقد أنك نجحت عنده بتقدير ممتاز، فحافظ على مكانتك تحصل على المزيد، تمنياتي لك بالتوفيق، ثم توجه خارجا من الغرفة فأوقفته، قائلاً، ولكنك لم تشرح لي مهام عملي وتعرفني على بقية أفراد الشركة. فأجابني قائلاً، تصفح الملف الذي أمامك على المكتب وستعرف كل شيء، ونلتقي بعد الصلاة في مكتبي.

مهما قلت، ومهما شرحت، فلن أستطيع وصف حالتي وردود أفعال الموقف في نفسيتي، وعقلي الذي استرجع كل نصائح والدي وتذكيري اليومي بهذه الأشياء التي كنت أعتبرها ذلاً وإهانة وتحكم، وَأُتَمْتِمُ غاضباً بكلمات كثيرة، وأحدث نفسي متضجراً، كيف أنها كانت السبب الرئيسي -بعد رضاء الله تعالى ثم الوالدين- في حصولي على هذا المنصب الرفيع ومحبة الشيخ (أ) لي دون سابق معرفة، ولا وساطة ولا شهادة عالية، ولا خبرة عملية!  

مضى بي الوقت اتعرف على أعمال الشركة والموظفين والإدارات الموجودة وغيرها، والتقيت بالأستاذ (د) وعرفني على مدراء الأقسام الأخرى، وتناقشنا في بعض الأمور. صلينا العصر جماعة في الشركة ثم بدأت عملية الانصراف.

خرجت وأنا لا أكاد أصدق نفسي من شدة السعادة والخجل من أفعالي وتصرفاتي السرية السخفة نحو والدي، أحدث نفسي، كيف سأخبر أبي! وكيف سأشكره واعتذر منه! خواطر كثيرة كانت تدور بخاطري طوال الطريق من الشركة حتى وصلت البيت.

يا إلهي!! لم كل هؤلاء الجيران مجتمعون!! بعض من الأهل والأقارب موجودين، ترى! ماذا حدث!!!

وفجأة، لم أكد أتنبه لما أراه، وإذا بالموجودين يتوافدون علي تباعاً يعزونني وأنا في ذهول تام، لا أعرف شيئاً، ولم أفهم ماذا حدث، لم أتمكن من الدخول للوالدة لأن البيت يضج بالسيدات، أين والدي! ولم كل هذا النواح!!!

إخواني الصغار يهرعون إلي في نحيب وألم، قائلين مات أبانا وتركنا عندك أمانة!! مات أباناً وتركنا عندك أمانة!! هكذا قال عندما أحضروه من المستشفى قبل أن يغمض عينيه ويسلم روحه لله تعالى.

يا إلهي ما هذا الذي يجري!! هل أنا في حُلُمٍ!! أم أنه خيال!! هل أنا بكامل الوعي وما أراه وأسمعه حقيقة أم وهم!!

سلمت عليه بعد صلاة الفجر، وقبلت يده ويدي والدتي، وفطرنا معاً قبل أن يخرج لعمله، وتحدثت معه على الهاتف قبل أن أخرج للمقابلة، كرر علي نفس الموال، ثم أردف قائلا (توكل على الله، وبالتوفيق بإذن الله) وكنت مُتَضَجِّراً جداً وأقول في نفسي، متى أخلص من هذا الموال اليومي!! والآن رجعت لأشكره وأبشره بحصولي على وظيفة جيدة بسب دعواته والموال الذي كان يزعجني، وأعتذر له، وأسأله أن يشاركني الفرحة، فلم أجده في انتظاري كالعادة!!  

كم هي صدمة قوية، وآلام عميقة، وخسارة جسيمة، ومسؤولية عظيمة!! 

سبحان الله- لم يفرح والدي بهذه اللحظة السعيدة، ولم أتمتع بسعادتها. لم أجده لأقبل يديه وقدميه وأبكي على صدره معتذراً بين قدميه، ليغفر لي سوء فهمي، ويتجاوز عن جهلي، ويصفح عن تمتمتي وتذمري المخفي.

لم أجده لأشكره على كل ما فعله حتى أوصلني لهذه المنزلة، وعلمني الأخلاق الفاضلة، ووضعني على طريق الصواب. تركني ورحل قبل أن أقدم له على الأقل بشرى واحدة من ثمرة كفاحه، وحصاد حياته، وثروة مستقبله.

يرحمك الله- أيها الأب الفاضل، والمعلم الجليل، والقدوة الحسنة ويمتعك بنعيم الجنان أنت ووالدتي العزيزة وإخواني وجميع أحبابي، والحمد لله على ما يعطي، وما يمنع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم] انتهى.

تمعن يا أخي في هذه الحكاية الهادفة، كن القدوة الحسنة، وافهم معانيها جيداً، واستوعب أهدافها بِرَوِيَّة، وأعمل بمقتضاها بدقة وعناية، وحقق مرتجاها قبل أن يمضي بك الزمان وأنت لاهٍ عنهما، منشغل أو متشاغل بأمور الدنيا، أو منصرف عنهما بحياتك الخاصة حتى لا تخسر الدارين.

اطلب الدعاء منهما، ولا تتذمر من أفعالهما، وإن كانت غريبة بالنسبة لك، فقد تفهمها يوماً ما، وإن كانا أو كان أحدهما ضعيفاً أو عاجزاً فكُنْ كظلهما ولا تتركهما للخدم فأنت أحق الناس بخدمتهم ورعايتهم، وإن كانا بين يدي الحي القيوم فأكثر الدعاء لهما، ولا تتوانى عن زيارتهما في القبور والترحم عليهما. 

أشركهما في كل صدقة تجريها، وأشرك أبنائك وزوجتك، وسيبارك الله تعالى لك في كل شيء ويفتح لك أبواباً كثيرة.

تأكد أن ما تقدمه لهما، ستجده في حياتك وبعد مماتك، فكن حرصاً على كَسْبِ رضاهما قبل فوات الأوان، ولا تجعل للندم على ما كان مكان.

تذكر قوله تعالى {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) سورة البقرة.

وقوله تعالى {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا*} (24) سورة الإسراء.

همسة “المتغيرات”

تطرأ على المجتمع تطورات متنوعة وتغيرات عجيبة بين الحين والآخر، تساهم في وضع المقاييس وضبط المعايير لمعدل التغيير المقبول والغير مقبول على المستوى العام والخاص، وترسم لنا مبادئ الحقوق والواجبات والمسؤوليات للأفراد والجماعات في معظم الأوقات، وترسيخ المفاهيم السليمة والمحبة وحسن التعايش مع الآخر، والمساهمة في الأعمال التطوعية التي تكسب الفرد الخبرة والمعرفة، وترشده لنبذ العصبية والقبلية والعنف، وإلغاء كلمة فاشل من قاموس حياة النضال والكفاح والإبداع والاختراع، ليدرك أن قوته بالعلم والمعرفة والأخلاق الفاضلة شيء أساسي يرتبط بقوة الدولة في جميع سلطاتها وتوجهاتها.

       طغت سياسة العولمة المزعومة والدخول في حياة العولمة المفروضة بالمسيرة الشكلية لما يطلق عليها (التنمية المستدامة) فككت عُرَى توثيق كثيرة، وقَطَّعَت العديد من تلك الحبال المتينة التي كانت بين أطراف المجتمع الداخلي والخارجي.

       توالت النتائج السلبية لتلك العولمة على معظم حياتنا، فاتسع نطاق التباعد أو الهجر، وانفتح طريق الهجرة، وتمسكنا بما يستجد من وسائل التقنية والحُجَج الواهية حاضرة ومخَزَنَة في الهاتف الجوال وغيره، أو على سطح الكمبيوتر مع دوران عجلة الحياة التي لابد لها من أن تستمر دون انتظار أحد، والعمر لا محالة يتناقص بمرور الأيام، والرجوع للخلف أمر مستحيل، والتفكير في المستقبل شيء بديهي، ونحن لا نزال متأرجحين دون قرار.

       أصبحت أيام أسلافنا ذكريات ماضية الحدث، قريبة الزمن بكل ما تحمله من تاريخ عريق ومحبة متبادلة طبيعية، يجهلها الكثير من أبنائنا، وربما لن تصل لأحفادنا لأننا لم نوثق حقائقها وأحداثها لهم، وللعالم ليعرفوا عراقة تاريخنا المجيد.

       نحن نفقد تاريخنا بأنفسنا، ونضيع حضارتنا بجهلنا لها، ونتناسى أمجاد أسلافنا، ونهدم علاقاتنا مع بعضنا ومع الآخرين، ونسير عمياناً خلف المغرضين والحاقدين، لأننا لم نحسن توثيقها، ولم نحرص على تطويرها دون المساس بأصولها. نتربع على الأطلال نبكي حالنا، ونأسى لمآلنا الذي لن يقدم أو يؤخر شيئاً من واقعنا طالما بقينا دون عمل جاد، وصحوة علمية وثقافة وأخلاقية واقتصادية.

       لا ندري هل صخب الحياة، وكثرة ارتباطاتها المتشعبة، له أثر في هذا التراجع الكبير أو الانقطاع المرير! أم أن المصالح الشخصية باتت تلعب دورا هاما في حياتنا، فانتشر المبدأ الخاطئ (الغاية تبرر الوسيلة)!

       هذه الوسائل التي غيرت مفهوم الحياة الحقيقية، وتجاهلت المبادئ الأساسية لها، وجعلتنا نعيشها كهواية أو في الخيال البعيد، دون إحساس ولا مشاعر ولا استثمار لأهدافها الحقيقية، بعد أن كثر الحسد وضعف الايمان، وتقلص اليقين، وانخفض أو انعدم مستوى القناعة، واصبح العم والخال ومن في حكمهم، والأخت والأخ ومن في حكمهما، والأسرة والعائلة، والترابط الوثيق بينهم ومعهم أسماء وعبارات سريعة، قد نتذكرها بين الحين والآخر بعد أن كانت جزءً لا يتجزأ منا، وعنصراً أساسياً من حياتنا.  

       المجد والعلا لا يتحققا بالأماني والأحلام، أو الكلام والهيام، بل بالعمل الجاد المشترك، والإبداع المتميز، والإخلاص المتواصل، والتعاون المتبادل في شتى المجالات والتخصصات من جميع الأطراف وعلى كافة المستويات الخاصة والعامة من القمة للقاعدة، وهذه مسيرة الرؤيا.

       العلاقات الاجتماعية عنصر مهم في حياة الإنسان، وإحدى مقوماتها منذ نشأتها، والأخلاق الحميدة قاعدتها الأساسية منذ الجاهلية وأيدها القرآن الكريم ووجهنا بها سيد الأولين والآخرين، والأدلة عليها كثيرة ولا أخال أحداً يجهلها.

       خطوات المضي للأمام تحتاج جراءة وشجاعة وخطة محكمة للسير والانتقال السليم لحياة الحداثة والتطوير وفق رؤيا لها أهداف واضحة، داخل منظومة إرث أخلاقي حميد، ومستوى ثقافي مجيد، وقيم عظيمة، وعادات محبذة، وتقاليد اجتماعية لها اعتباراتها مع احترام متبادل، تحقق الاستقرار والأمن والسلم والسلام الاجتماعي والمجتمعي الداخلي والخارجي. نحافظ بها على السير على المنهج الحسن للسلف، نطوره مع مجريات الأحداث ضمن المنهجية الشرعية العامة وتوجيهات سيد البشرية عليه أفضل الصلاة والسلام.

       الحقيقة التي لا مفر منها، تؤكد أن الحياة تجري بأحداثها، وتسير بمتغيراتها، وتمضي بمعاصريها، والأفكار تتوالد عند مفكريها، تتجاهلها فئة، ومحط اهتمام فئة أخرى، والتغيير حقيقة لا مناص منه، والاختيار حق شخصي، والتباين فيه مشروع في حدود المشروعية، والعاقل من فاز بالأحسن.  

       كم أتمنى (تمنى الرجاء، وليس تمنى الأحلام)! أن تكون الغالبية من الفائزين!!

همسة “الانتماء”

للحارات والأحياء القديمة في مكة المكرمة طبقاً لما عشناه مع أجدادنا، أصول وقواعد عديدة يعرفها معظم الناس في ذلك الزمان، ويرعى تطبيقها كبار الشخصيات وعمد المحلات، لكل منهم دور فاعل في المجتمع الحجازي القديم، وقد يشتركوا في بعض الأمور. أهم شيء ألا يكون هناك خصام أو تخاصم بين السكان ولا بين الحارات، وأي خلاف قد ينشأ لا يصل للجهات الحكومية بل يفصِله عمدة المحلة أو كبار الشخصيات بالحي حتى وإن تطلب الأمر تحمل أعباء مالية.  

       الحمد لله- نجحت في اصدار كتاب “رجل المهمات الصعبة” بعد جهود مضنية، كنت خلالها أدون بعضاً من ترجمتي المصاحبة لترجمة العديد من العلماء والفقهاء والشخصيات التي عاصرتها وتعلمت منها الكثير، وذكرت الحارات التي تنقلت فيها.

       حاولت مراراً منذ عام 1400هـ، القيام بعمل مجسم مصغر للمسجد الحرام قبل عام 1375هـ، ذكرى للأجيال القادمة وحفاظاً على التاريخ الجميل الذي نعتز به، واشتريت عدة قطع وأدوات يدوية من المعارض الأجنبية الدولية التي كنت أزورها، أو أُدعى لها خارج المملكة حتى أصبح لدي أدوات كثيرة ومتنوعة تسهل على ذلك.

بدأت في وضع الفكرة العامة على ورق وكتبت الخطوات المطلوبة وبدأت العمل التنفيذي التدريجي بحسب أوقات الفراغ، لكن كثرة المسؤولية عن أعمال والدي -يرحم الله- التي أناطها بي لم تعطني الفرصة الكافية لتنفيذ كامل الفكرة.

تمت إزالة تلك الأماكن التاريخية العتيقة ولم يعد منها إلا الذكرى الجميلة عند عاشقيها وما بقي في الذاكرة مع الحسرة والندامة على فقدان أصولها دون أن تؤخذ لها صور واقعية متكاملة ومعلومات من الطبيعة، وتدوينها وتوثيقها.

نشأت مجموعة متطوعة بجهود فردية ومضنية لجمع معلومات عن سكان الحارات والأحياء التي تمت إزالتها من حول الحرم (المجموعة الأولى) والثانية لرصد وتوقيع مواقع ومحتويات تلك الحارات والأحياء على كروكيات ومخططات جوية لذلك الزمان، ولبيت شاكراً دعوة الانضمام لهما. تعرفت على الكثير من الإخوة والأخوات الأفاضل، منهم من لا يزال يقيم فيها بقلبه وعقله وجوارحه، ومنهم من ترك قلبه فيها ورحل بجسده لسواها سعياً للمعيشة ومتطلباتها. عمل جميل وجهد موفق وفعل مشكور، يتعاون في تنفيذه فرق متعددة، تحت راية المحبة ومبدأ الإخلاص وقاعدة الانتماء.

الحمد لله الذي حقق رجائي، فقد ناديت بهذا كثيراً ودونته في مقدمة كتابي “رجل المهمات الصعبة“، وبقي أن تتم بقية أمنياتي تلك، بعمل شريط سينمائي رائع، ومجسم كبير معبر ومتميز بكامل المعلومات والإرشادات، وعمل معرض متكامل للصور، ومتحف متكامل ليتحقق بقية الحلم، وعمل حي أنموذجي استثماري متكامل بجميع الخدمات والمتطلبات وسمته ب “الحي النموذجي للحارات والأحياء القديمة بمكة المكرمة” مماثل لما كانت عليه تلك المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، وعمل المتحف والمكتبة المكية[1] في محيطه، وأن يكون خارج منطقة الحرم حتى يمكن لغير المسلمين من زيارته، وفتحه للزيارة والسياحة برسوم، ويصبح الكلام واقع، والخيال حقيقة. أتمنى أن أرى هذا قريباً.

لا أعرف كيف تكون عملية الانتماء للحارة! بسكن الوالد فيها! أم بالولادة فيها! أم بسنوات معيشة الشخص أم الأسرة فيها! وكيف يمكن تحديد تلك الفترة الزمنية! أم بقواعد أخرى لا أعرفها! ولأيهم تكون الأولوية إذا تنقل المرؤ لعدة حارات، راغباً أو مكرها! وما هي المبررات أو الأسباب لتحديد ذلك!

 لذلك تعذر عَلَيَ تحديد الحارة التي قد أنتمي لها، لأنني ولدت في حارة، ونشأت في أخرى، وعشت في ثالثة، وانتقلت لرابعة وخامسة.

طرحت هذه المداخلة عن (الانتماء للحارة أو الحي) على المجموعة الأولى لداستها وتحليلها بعد الرجوع للقواعد المتخذة من قبل أسلافنا، والاتفاق على أسس وقواعد عامة يمكن تطبيقها دون تأثير سلبي مؤثر. يبدو أن الأمر لا يزال قيد الدراسة حتى تاريخ هذا النشر. وآمل مِنْ مَنْ يستطيع المساهمة في هذه الدراسة أن يدلي بدلوه لوضع تلك القواعد.

كذلك طرحت فكرة توحيد ترقيم الحارات بحسب الأولوية أو المكانة التاريخية لها مع ذكر أسباب المسميات، وتوزيعها على أساس مسمياتها وتقسيمها قبل عملية أول توسعة في العهد السعودي، لأنها تحكي الواقع الملموس والمحسوس في ذلك الزمان، وليس على أساس الوضع الحالي كما يرى البعض، لوجود اختلاف كبير بين الحالتين، يختلف عن الهدف المنشود، ويبدو أن الأمر لا يزال قيد الدراسة حتى تاريخ هذا النشر.

كما طرحت فكرة وضع تلك الأرقام على مخطط جوي عام وموحد يضمن تلك الحارات والأحياء ويكون المرجع الرئيسي لجميعها في أي معلومة أو موضوع. ويبدو أن الأمر لا يزال أيضاً قيد البحث والدراسة حتى تاريخ هذا النشر. وآمل من المجموعة المسؤولة عن تحقيق ذلك أن تسارع في خطواتها كسباً للزمن، وتحقيقاً للأهداف السامية المنشودة من ذلك.

لن أتخلى عن ثقتي بكم، ويقيني بأنكم ستصلون للرؤيا المنشودة، وسيتم بإذن الله تعالى تدشين توثيق ما جمعتموه من معلومات وتوقيها على المخططات، فسابقوا الزمن قبل أن يرحل عنكم، وخلفوا لأجيالكم قدوة حسنة، وذكرى خالدة، وتاريخاً عريقاً مجيداً.   

أكرر جزيل شكري للمجموعتين وجميع فرعهما، ولكل من يساهم في تحقيق الأهداف السامية المنشودة في محبة مكة المكرمة بلد الله الحرام، ومولد رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم، ومحبة وطننا الغالي.


[1] المكتبة المكية بينت تفاصيلها في همسات سابقة همسة ل “عشاق مكة المكرمة، طلب انقاذ” موجودة في الموقع بند (همسات)

همسة “النسب”

تطورت مسيرة الحياة، واختلط الحابل بالنابل، واتسعت وسائل التواصل الاجتماعي كثيراً، وشارك فيها العديد من الجنسين على اختلاف معلوماتهم وثقافاتهم ومفاهيمهم. أضاع البعض منهم اللغة العربية، وحَرَف الكلمات بعض آخر، أو كتب بأسلوب غير لائقٍ، وآخرون منهم انطلقوا دون ضوابط.

أناس حرفوا أسمائهم، أو استعاروا أسماء أو كنية لهم، وأناس استخدموا علامات أو حركات معينة من الحركات المنتشرة على مواقع التواصل، أو الاكتفاء برقم هاتفه واختباءه خلفه.

فهل يا ترى! هناك من أسباب أو مبررات منطقية لهذا التخفي! أو الاختباء خلف شعار! أو شكل! أو رمز!! يمكن الاستفادة منها!! أم أنه مجرد تقليد شكلي للمستورد!!  

نعرف نسل النبي صلى الله عليه وسلم، ونتشرف به، ونعرف أسماء زوجاته وبناته وأبناءه رضي الله عنهم أجمعين، ونعرف أسماء المهاجرين والمهاجرات والشهداء والشهيدات وبعضٍ من الأنصار، والعديد من الصحابة ذكوراً وإناثا، ونعرف أسماء الكثير من الرجال الأفاضل والسيدات الجليلات على مر التاريخ، كلها مدونة ومتداولة دون أن يُنْقِصَ أو يمس ذلك من أيٍ منهم شيء سيئ.

يقول الله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الآية (5) الأحزاب، وقال سبحانه وتعالى في آية التحريم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) الآية (23) سورة النساء.

هذه بعض الأدلة الشرعية والأمثلة على ضرورة الانتساب وعدم الغموض.  

إذن، إخفاء الاسم أو النسب شيء منبوذ لا يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ولا السنة النبوية. فالمرؤ إما أن ينتسب وفقاً للمبادئ الشرعية، وإما أن يحجب نفسه إذا كان ذلك الأنسب له، خيراً له من أن يخالف المبادئ الشرعية والسنة النبوية، ويسلك طرق غير صحيحة خلف التطورات المزعومة والمعلومات الغثة والثقافة السطحية أو الهشة. 

       أتمنى أن نراجع أنفسنا، ونصحح أحوالنا ونعود للصواب قبل فوات الأوان.

       نسأل الله الهداية والرشد، والتمسك بالمبادئ الشرعية والسنة النبوية، والبعد عن كل ما يخالفهما، أو يخرج عنهما، فهو ولينا ونعم الوكيل.

همسة استثمارية أزلية

القدرات البشرية المختلفة بكل وطن أو دولة هي الثروة الحقيقية والأساسية التي تستطيع تحقيق ذلك النمو في شتى المجالات، والتطور في مختلف التخصصات.

أما الثروات الطبيعية والإرث المادي فما هي إلا وسيلة لتحقيق الأهداف ونيل الطموحات والوصول للعالمية.

لذلك، توجهت الدولة بقوة فاعلة لتنمية المجتمع ومواكبة النمو الحضاري، فتم توسيع نشر الخدمات الأساسية التي كانت موجودة في منطقة الحجاز كالتعليم والصحة والبلديات والأمن في المدن، وتلاها نشر التعليم المجاني النظامي في المدارس والمعاهد في بقية مناطق المملكة، فالاتصالات والطرق والصناعة والزراعة، وتشجيع القطاع الخاص للنهوض والمشاركة في بناء الوطن حتى أضحى يشار له بالبنان.

توالت التطورات لتواكب منهج مسيرة التنمية المستدامة، فأخذت تهتم بمجال التنمية الاجتماعية والمجتمعية ومحاولة تحسين الرفاهية في المجتمع بعد تطبيق الأنظمة الضريبية وتغيير بعض مواد وفقرات بعض الأنظمة المدنية والأمنية والاقتصادية، وتتوسع في جميع المجالات والنشاطات الإنسانية والفكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وفتحت أبواب الأنشطة الثقافية التي كانت مغلقة كالاحتفالات المحلية والدولية والمسارح والسينما والمناسبات الوطنية وغيرها، وتقوم بتقديم الدعم المادي والمعنوي لبعض منها.   

الأجيال السابقة أدت أدواراً جبارةً تشكر عليها، وقامت بمجهودات عظيمة رغم صعوبة الحياة التي كانوا يعيشونها، جعلها الله في ميزان حسناتها.

من أجل وأهم هذه الأدوار التي أَدَوها، هو تنشئة جيل قوي بالإيمان، فيه العالم والمتعلم وطالب العلم، فيه الباحث والمجتهد والعامل والزارع، فيه العديد من الصفات الحسنة والقدوة الصالحة، ولا يخلو من الشواذ.

لقد آن الأوان لهذا الجيل المعاصر بأن يأخذ بقيادة الدفة، وإدارة العجلة بمزيد من الحكمة حتى لا تخرج عن المنهج الإسلامي العام، ويركب قطار مسيرة التنمية المستدامة ويتجاوز العالمية، ويتغلب على كل الأفكار الهدامة، والمؤثرات السلبية التي تتسلل بلا هوادة ودون استئذان للبيوت والعقول والقلوب، وأن يتمكن أفراده من حسن اختيار الثمين ونبذ الغث الدفين، والحرص على المزيد من التعلم وحسن الفهم، وتنمية الروح الوطنية، ومواصلة نشر المزيد من عناصر المحبة والسلامة بين أفراد المجتمع.

إن أهم وأعظم مقومات هذه البلاد، هي المقومات الروحية المتمثلة في العناية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وبالشرف العظيم لخدمة ضيوف الرحمن، واللذين يعدَّان رصيداً أزلياً وكنزًا عظيمًا لا مثيل له، وله مكانة عالية في الدنيا، وتأثيرات فاعلة على جميع المستويات.

إذن، بناء الإنسان هو العنصر الأساسي في هذه الحياة، ولابد أن يكون قبل بناء المكان، فالإنسان هو الذي يمكنه بناء كل شيء -بقدرة الله تعالى-

لذلك، يهتم الإنسان النشيط بالعمل المناط به، والقليل مَن يحرص على تطوير إمكانياته وتحسين مستواه المادي والعلمي، والكثير من الناس لا يحب المجازفة ولا التعرض للمخاطر على اختلاف أنواعها ومستوياتها بالنسبة لمجال عمله ومسيرة حياته ويقبل بالواقع.

القليل من الأفراد الطموحين من يحب المغامرات والدخول في المنعطفات، والصعود لقمم الجبال بإرادة قوية وعزيمة صادقة متخطياً كل الاحتمالات مع أخذ الحذر والحيطة وتجنب الهَوْيَاتْ، بعد دراسة متأنية وتفكير عميق، يَجِد ويَجْتَهِد، يزداد علماً، ويتوسع تعليماً، ويستدرك فهماً، ويستنير معرفة، ويتطور فكريراً، ويتنور تفكيراً، مستثمراً في نفسه وفي علمه ومعلوماته وأعماله ومجتمعه، فيسهل عليه المساهمة في تطوير أسرته ومجتمعه ووطنه ومواكبة مسيرة الحياة والرفاهية المعتدلة، وهذا من أَجَلُّ وأفضلُ أنواع الاستثمار. 

فإن أردت يا أخي الكريم أن تبني أو تستثمر شيئاً قوياً يسري مفعوله، ويخلد أثره، ويجري أجره بلا انقطاع، فاستثمر في بناء ابنك وابنتك (وَرَثتك في الدنيا، ورصيدك للآخرة) بقوة العقيدة، وفهم العلم، والقناعة والرضا، وحب التعلم، والقدوة الحسنة، والقدرة على الحب والمحبة والتسامح وحسن التعامل مع الآخر، وصم الآذان عن النميمة، والبعد عن الغرور، وتجنب زارعي الفتن، ومروجي الأكاذيب.

لا تَبْنِ لهم بيوتاً دنيوية، ولا شركات وأرصدة بنكية يتنازعون عليها ويتخاصمون ويتفَرَقون بسببها بعد وفاتك.

هذا لا يعني أن تتركهم فقراء يتكففون الناس، بل ضع الأساس القوي، وكن حريصاً على الاستثمار الأمثل، تحصدهما معاً، والهداية من -الله سبحانه وتعالى.

إن من يستطع فعل ذلك الاستثمار الأمثل، يكون قد حقق الكثير للدنيا والآخرة، لأنك بذلك الرصيد الثمين الذي زَوَدْتَهُم به في حياتك، يستطيعون بناء السعادة، ونيل الطموح، وبقاء الأخوة، ونشر المحبة، والمحافظة على المودة، وحفظ الإرث أيا كان، وتطبيق ما فعلته معهم على ذرياتهم.

فاحرص يا أخي على الفوز بالاستثمار الأزلي قبل فوات الأوان، فلا تلهيك المنعطفات المزينة، ولا تتعثر في المطبات المتكررة، وتنبه قبل السقوط في فجواتها وحفرها المتنوعة.

لا تنساني من الدعاء. وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.               اللهم آمين

همسة “زمان”

حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، يشهد له رب العالمين في قوله تعالى {وإنك لعلا خلق عظيم} الآية (4) القلم.

علم أسلافنا أشياء لا حصر لها، توارثوها أجيالاً متتالية يعلمونها لأبنائهم منذ الطفولة حتى ينشؤوا على المبادئ القيمة والقيم الحميدة والأخلاق الفاضلة، ولا يزال الكثير منا يطبقها عن حب وقناعة، منها حسن الخلق، وحُلْوَ التعبير، وبشاشة الوجه، وابتسامة القلب، ونشر السلام في كل مكان، والتسامح وتبادل المحبة، والمشاركة الوجدانية في السراء والضراء، والتأدب في الكلام، وتقدير الكبير واحترام القرين، والعطف على الصغير واحترام الرأي الآخر، وغيرها.

توارثناها أجيالاً متتالية أبناءً وأحفادا، فأصبحت لنا سمة جميلة ومبادئ قيمة، وقيم عظيمة، ولا تخلو أي قاعدة من الشواذ.

تعلمنا بالمحبة والحنان، بالأدب والاحترام، بالتآخي والتعاون المنتشر في غالبية المجتمع الحجازي القديم في ذلك الزمان.

لم يكن العقاب للانتقام، بل كان نوعاً من البيان، والحرص على معرفة الصواب وعدم تكرار الأخطاء، ولا أخاله إلا كذلك لمعظم السكان رغم مرور الأيام، واختلاف الأجيال والزمان، ولا يخلو من الشواذ.

هذا المجتمع الذي كنت أعيش فيه، وهذه البيئة التي نشأنا فيها، وهذه بعض من التقاليد الحسنة، والعادات المستحسنة، والمفاهيم الجميلة التي كانت ديدن الغالبية من طبقات أفراد ذلك المجمع الحجازي القديم على اختلاف جنسياته ولغاته وعاداته وتقاليده التي انصهرت في بوتقة واحدة، وأبرزت حياة المحبة المشتركة.

نشأت خلال تلك الأيام الخوالي بكل ما كان فيها من ذكريات جميلة، ومجتمع متكاتف، وحياة طبيعية. تعلمت الكثير من أجدادي ووالديَّ وأحبابهم وجيرانهم وأساتذتي وغيرهم، ولا أزال أحب أن أتعلم المزيد بنفس راضية وقناعة تامة.

الحمد لله- أحرص على تعليم تلك المبادئ والقيم لأبنائي ونقلها لأحفادي، وأتمنى أن نظل نحافظ على هذا الإرث الطاهر مهما واجهتنا الصعاب، أو قاومتنا وسائل التحضر الزائفة، أو عارضنا أعوانها، وأن يعود المبتعدون عنها إليها ليستطعموا لذة الحياة الحقيقية، ويحافظوا على متعة الآخرة، فزيف الحياة زائل مهما أحيط به من أنواع الزهور، أو فُرِشت أرضه بالورود.

ما أكتبه عن ذلك المجتمع الذي عشت في جزء منه، وتعايشت مع القليل منه بقدر ما تسمح بتدوينه الظروف، أُوثِقَه بصدق وأمانة -وأجزم بأن هناك الكثير مما نسيته، أو يعرفه غيري ولم يُدَوَّنْ- ما هو إلا جزء ضئيل من حقوقهم علينا، وقليل من ما يستحقونه من شكرنا لهم على ما بذلوه لنا وما ضحوا به من أجلنا.

أما ما يمكن توثيقه ولم يوثق، فأعتبره قصور منا وتقصير من بعضنا في حق أسلافنا والتاريخ القديم، والأجيال القادمة.

حبذا لو نستدرك ما فاتنا، ونصحح أخطاءنا، ونعود لوعينا، ونكف عن النواح، نفكر بعقولنا، ونُحلل بمنهجية شريعتنا، ونجمع بين العقل والمنطق والقلب قبل إصدار أحكامنا، ونتجاهل كل الدعايات الواهية، والأكاذيب المضللة، ونقيم كل المستجدات قبل أن نكون جزءً منها.    

ليس هذا التدوين بهدف الذم أو النقمة على عصر التكنولوجيا وأجياله، رغم كثرة سلبياته، وقلة الحيلة أمام تنوع مغرياته، وصعوبة التغلب على الكثير من عقباته، وإنما هو تذكيرٌ لبعضٍ من القيم والمبادئ العامة التي نتعلمها من أسلافنا، وننشأ عليها منذ الطفولة، نمارسها في حياتنا العامة والخاصة، نتوارثها أجيالاً متتالية، ونبذل قصارى جهدنا لتستمر، ولا يمنع ذلك من إضافة كل جديد حسن ومفيد لا يخل بأي حال من بنود المنهج الشرعي العام ليواكب الزمان والمكان، ويحق الأهداف المنشودة بصدق وأمان.

كم أتمنى أن نزداد ترابطاً وتطوراً لنواكب التطورات الزمانية والمكانية بما لا يُخِلُّ بالقواعد الرئيسية.

قد يذكرنا هذا التدوين أيضاً بالدعاء لأسلافنا على ما بذلوه من جهود مضنية، وحياة صعبة عاشوها لنتنعم بما نحن فيه في هذا العصر العجيب في كل شيء.

فشاركوني الدعاء لهم حتى نكسب الأجر معاً، ونحظى بالرضا من رب العالمين.

اللهم ارحمهم أجمعين، وارحمنا أحياً وأمواتا، وارزقنا الذرية الصالحة إلى يوم القيامة، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والآل والصحب أجمعين.    اللهم آمين.

همسة “الصلاح” 

أعمال الخير لا تحصى ولا تعد، وسًعَها الله سبحانه وتعالى لعباده ليحصد كل منهم بقدر ما يستطيع، فيكون الأكثر فوزاً بنعيم الجنان، أقلها إماطة الأذى عن الطريق. من مراتبها العالية “بر الوالدين في طاعة الله سبحانه وتعالى”

سأل رجل أحد العلماء قائلاً “هل أنا من الصالحين”!

فأجابه العالم {إن كنت تدعو لوالديك فأنت منهم، لحديثٍ لرسول الله ﷺ يقول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} رواه مسلم. فإن كنت تنسى والديك، فلست منهم بقدر نسيانك لهم}.

وتذكروا معي قول الله تعالى ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. (الآية 24) سورة الإسراء.

الدعاء لهما وبرهما أحياءً وأمواتا فرصة ثمينة، والسعيد من يفوز بها، خاصة في شهر رمضان المبارك والأشهر الحُرُمْ، نتذكرهم بالدعاء ونحرص على رضاهم أحياءً، ونزورهم في القبور إن كانوا من أصحابها وندعو لهم، ولا ننقطع عن ذلك بقدر الإمكان، امتثلاً لأمر الله تعالى وتلبية لتوجيهاته ﷺ [كُنْتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها] رواه مسلم.

شكراً لله سبحانه وتعالى، وتقرباً إليه، وبراً بهما في الدارين.

نسأل الله باسمه الأعظم وكرمه وفضله أن يجمعنا بهما على الحوض، وأن نكون بصحبته ﷺ لرؤية ذا الجلال والإكرام.

اللهم آمين عليه أفضل الصلاة والسلام. 

همسة “التواضع”

هذا درس عملي فريد، فبالرغم مما يحظى به والدي حسين جستنيه -يرحمه الله- من مكانة رفيعة في المجتمع ومنزلة عالية لدي الكثير من رجال الدولة، إلى جانب منصبه كمدير عام لوزارة المالية التي كانت الوزارة الوحيدة في الدولة آنذاك، ولديه صلاحية التوقيع عن وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان الوزير الأوحد في الدولة، إلا أنه كان يتمتع بنسبة عالية جداً من التواضع وكرم النفس.

كان يقوم بنفسه -يرحمه الله- بتأمين كل متطلباتنا ومتطلبات المنزل رغم وجود من يمكنه القيام بذلك من العاملين عندنا. أخذني معه ذات مرة للمنشية التي تحت عمارة المفتي تقاطع زقاق الحجر مع زقاق الصوغ بمكة المكرمة، لأتعلم كيف أقضي أو أشتري احتياجات البيت اليومية من متطلبات الطعام كاللحمة والخضار والفواكه والبقدونس والكزبرة والفلفل الأخضر الحار والليمون وبقية الأشياء.

كان عندنا عم يوسف دلول الفلسطيني يسوق السيارة. وصلنا سوق الليل عند السبعة آبار أمام الزقاق الواصل بين سوق الليل وامتداد زقاق الصوغ النافذ لشارع المدعى قبل مقراة الفاتحة ونزلنا من السيارة وأخرج عم يوسف الزنبيل الخصف[1] الذي كان يُسْتَخْدَمْ في ذلك الزمان لوضع المشتريات فيه. تناول الوالد الزنبيل من عم يوسف وسار به أمامي متجهاً للمنشية بينما عاد عم يوسف للسيارة لإيقافها في مكان جيد ويعود ليحمل الزنبيل عن والدي تأدباً منه بعد إلحاح شديد منه على الوالد.

هذا الزقاق يقع على جانبيه محلات تجارية مختلفة البضائع وجميع من بها يعرف الوالد، يطرح على كل منهم السلام وينزل بعضهم من دكانه للسلام ومصافحته والاطمئنان على صحته.

المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أو أفهم معناها آنذاك، أن كل شخص من أصحاب هذه المحلات كان يحاول أخذ الزنبيل من الوالد وحمله نيابة عنه تقديراً لمكانته ورغبة في خدمته وتعجباً لتواضعه، لكنه يشكرهم ويعتذر منهم ولم يعطه لأحدهم رغم كل المحاولات حتى أن بعضاً منهم طلب من الوالد أن يرافقه ابنه ويحمل الزنبيل بدلاً عنه، إلا أنه لم يوافق ويتشكر منهم ويدعو لهم وهم في غاية السرور، كل منهم يتمنى أن يحظى بالموافقة على حمل الزنبيل الذي كنت أشاهد ما يحدث وأسمع ما يدور من حديث دون أن أحرك ساكناً. كنت صغير السن قليل الخبرة، معتزاً بنفسي ومتفاخراً بمكانة والدي ووضعنا العائلي، فكنت أستعلي نفسي على حمل الزنبيل والتنقل به بين المحلات التجارية لشراء الاحتياجات، لم أتعلم بعد من هؤلاء الناس.

تجولنا في المنشية والمشهد يتكرر وكل رجل منهم يصر أو يحلف طالباً من الوالد أن يسمح له أو لابنه بحمل الزنبيل نيابة عنه في حين أسير بجوار والدي ولا أحاول مثلهم أو على الأقل أكون الأولى بذلك، لكن مشهد تجمع ثلاثة أشخاص بأبنائهم الذين يكبرونني سناً وإصراهم على طلب السماح لأبنائهم على الأقل بحمل الزنبيل عن والدي ووصول عم يوسف الذي بادرهم بقولة، أنا أحق بذلك، نزع الأنفة التي كانت عندي فمددت يدى آخذ الزنبيل من يد والدي الذي تبسم وتركه قائلاً “لقد حل الموضوع إبراهيم شكراً لكم وجزاكم الله خيراً” نظر الجميع إلي في صمت وتعجب، لم أفهم معناه آنذاك ولم أدرك مقصده إلا بعد حين.

لم يحاول الوالد يرحمه الله أن يفرض علي حمل الزنبيل، أو يأمرني بحمله، ولم يسع لنهري أو تأنيبي للتقاعس عن حمله، بل جعل من تواضعه ومحبة الناس له موقفاً تاريخياً لن أنساه مدى الحياة، ومنهجاً تربوياً عظيماً لا أعتقد أنه موجود في عصر الحضارة والتكنولوجيا، وتدريبياً عملياً على التواضع والمحبة والتوقير بعيداً عن الأنفة أو التكبر والغرور.

منذ ذلك اليوم وأنا في المرحلة المتوسطة من تعليمي، بدأت مرحلة جديدة في حياتي العملية، وأخذت في تطوير أفكاري وتنمية مداركي، وتحسين طريقة تحليلي لمعاني الأحداث، وفهمي لواقع الحياة، أخذت تتطور مع كل درس جديد أتعلمه بأسلوب الترغيب والتهذيب والمشاعر الأبوية، وليس بنظام القوة والعصبية والأمر الواقع، ولا أزال أسعى لأن أكون كل يوم أفضل من اليوم السابق.

أوردت ما تذكرته من هذه الدروس والحكم والقيم في عدة مناسبات مع وبين شخصياتها، بين طيات مجلدات “مجموعة التراجم التحليلية التداخلية المشتركة” التي أقوم بمراجعة بعض أجزائها تمهيدها لفسحها للنشر، راجياً أن يستفيد منها الآخرون فأحظى بأجرين، ونتذكر معاً أسلافنا -يرحمهم الله جميعاً- فندعو لهم، وأكسب بذلك أجرين آخران.

ولنتذكر معاً شيئاً من آداب القرآن الكريم في قوله تعالى {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ*} الآية (18-19) سورة لقمان، وقوله تعالى {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} الآية (37) سورة الإسراء.


[1] الزنبيل الخصف مصنوع من شرائح زعف النخيل قبل أن يجف بطريقة الغزل التبادلي والعقدة بأحجام مختلفة على شكل شبه أسطواني مفتوح من أعلى وله يدين على شكل حرف U مغزولة أيضا في المحيط العلوي له أو من الحبل القوي ومدخلة مع نسيج غزل الزنبيل بالنسبة للحجم الكبير حتى لا ينقطع من وزن محتواه. الكبير منه يستخدمه الجزارة لوضع الأغنام بعد ذبحها وتنظيفها لنقلها من مكان لآخر.