اطلعت على مقال تحت عنوان (أبناؤنا يعاقبون بلا ذنب ولا خطيئة) للدكتور صديق صالح فارسي، نُشِر في أحد الجروبات الثقافية، يتحدث فيه عن ارتفاع نسبة الطلاق وجانباً من أبعاده.
المرأة هي القلب النابض للأسرة، والحياة السعيدة لها، وهي المستقبل الزاهر، وهي القادرة على المحافظة على استمرارية بقاء البيت صامداً في وجه كل الظروف والتحديات مهما كانت، لتكوين أسرة صالحة من عدمه، حتى وإن كان الرجل سيئاً، أو عاصياً، أو فقيراً، والعكس صحيح، ولنا في ذلك المثل الأعلى في قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} الآيات (10-11) سورة التحريم.
وفي توجيه حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، مثل آخر،جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يَا رَسُول اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»}[2]
لنا في كتاب الله عز وجل الشهادتين والتشريع العام، والمحافظة على تلاوته وحفظ شيء منه على الأقل، ولنا في حبيبه عليه أفضل الصلاة والسلام القدوة الحسنة والتوضيح والبيان، ولنا من الواقع الاسترشاد والتبيان، علنا نعتبر منها، قصة السيدة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت الفقير المعدم، والتي وردت قصتها في سورة المجادلة، وكيف كان حرصها الشديد على عدم خراب البيت بعد ما ظاهرها[3] زوجها.
النصيحة إحدى عناصر الأمانة، قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا*} الآية (72) سورة الأحزاب. وإحدى عناصر الدين [الدِّينُ النَّصيحةُ، قالوا: لِمَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: لكتابِ اللهِ، ولنبيِّه، ولأئمَّةِ المُسلِمينَ][4].
ولنا في الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام المثل الأعلى، وهم في حفظ الله تعالى.
النصيحة منذ القدم، عبءٌ ثقيلٌ على قائلها، إن ذكرها الإنسان في غير موضعها، فغالباً ما تكون وبالاً عليه، وإن اختزنها بين جوارحه تلافياً لعواقبها تظل تؤلمه بقية حياته.
أتذكر أنني كتبت عن موضوع المرأة والشباب وبعضاً من جوانبهما أكثر من مقالة، ودونت استبانة عدة مرات، ومن المؤسف جداً، لم أجد استجابة[5]، ولم ألمس أي تطور أو تقدم، بل غالباً ما كان يحدث العكس تماماً.
كذلك، أتذكر أنني اطلعت على العديد من النداءات والمقالات، والاحصائيات الرسمية حول مشكلة الطلاق وتوابعها، دون أن تكون هناك حلول فعلية مطروحة وقابلة للتطبيق.
يعتبر هدم الأسرة بشكل عام، والأسرة المسلمة بشكل خاص أكبر هجوم وأقوى سلاح لمحاربة الصواب، وإبعاد الناس عن الأخلاق الإسلامية، وإلغاء العادات الحسنة، ومحو التقاليد المحبذة، ونبذ القيم النبيلة.
من المؤلم جدا أن الفئة التي خططت بدقة متناهية لهدم الأسرة، وتنادي بالتحرر من الضوابط الشرعية والاجتماعية والمجتمعية، وتحث على إلغاء العادات الحسنة، والتقاليد القديمة الجميلة، والقيم النبيلة، وتُحَرِّضُ على الحرية المُفْرِطَة بلا ضوابط ولا قيود، قد تمكنت من التوغل في عقول الكثير من الناس على كافة المستويات والمجتمعات.
خَطَّطَت تلك الفئة لذلك بدقة فائقة، وأهداف هدَّامة، وشعارات زائفة، ودعاية كاذبة، ونفذت مخططتها باحترافية ممتازة، وعناية فائقة، وقد نجحت للأسف الشديد بامتياز.
خرج البعض منا عن حدود التعاليم الإسلامية والتوجيهات النبوية، وتجاوز البعض منا القواعد الأساسية، والضوابط المنطقية، وانضم البعض لصف المضللين، جاهلين أو منقادين، فكان ما كان من الشتات والضياع وهدم البيوت، وضياع الأبناء وظلمهم وعقابهم على ما ليس لهم فيه يدُ ولا قول ولا فعل.
أغلب الأبوين في هذا الزمن، وتحت تلك الشعارات الهدامة، لم يعودا قادرين على مواجهة الهجمات الخارجية، والدعايات الزائفة المتسللة عبر العديد من وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي الذي تبثه كثيرٌ من تلك الجهات المغرضة.
هما عاجزين تماماً عن السيطرة أو التحكم فيما تبثه تلك الجهات من معلومات سيئة وأفكار هدَّامة، وخاصة بعد ما أصبح الهاتف الجوال الرفيق حتى في المنام، وألعوبة الأطفال، وتسلية الصغار والكبار على كافة الأعمار من الذكور والإناث.
انعدمت العلاقات التوافقية أو الترابطية الوثيقة التي كانت بين كثير من أفراد الأسرة وبعضها، وبين الأسرة والمجتمع بسبب انتشار هذه العناصر الهدَّامة وأمثالها مما جعل الكثير من الآباء والأمهات في مواقف حرجه وصعبة للغاية، حتى وإن كانا من ذوي العقل الراسخ والحكمة البليغة، أو القدوة الحسنة التي تعتبر من أهم العناصر لحياة الأسرة وترابطها.
قلما أصبح يتواجد في المجتمع المعاصر كبير للعائلة، أو رئيس للمجموعة الذي يستطيع إدارة الدفة بحكمه وعقلانية وطاعة من قبل أفراد تلك العائلة أو الأسرة، أو القبيلة، وهي إحدى تلك القيم النبيلة والعادات الحسنة، والتقاليد المحبذة والمفيدة جداً، والتي كانت تسود غالبية المجتمعات العربية والإسلامية بشكل طبيعي، وكما يقال عند العامة (سفينه بلا ربان تغرق، وإلِّ مال كبير يستلف أو يشتر كبير).
وهذا فعلا ما يحدث في المجتمع المعاصر بعد أن تلاشت مكانه القائد أو انعدمت صلاحياته وأصبح كل فرد من الأسرة أو العائلة حُرّ التصرف مهما كانت العواقب.
لقد طغت على الكثير من أفراد المجتمع الحاضر عناصر [(الـ أنا ومن بعدي الطوفان)، (الحرية المطلقة، أنا حر أفعل ما أشاء دون حساب ولا عقاب]، بعد أن تم اشباعها بمعلومات مسمومة بلا رقيب ولا حسيب، عبر الوسائل المتعددة الحديثة مع انعدام القدرة على السيطرة على محتواها.
أصبح الغالبية من الناس في هذا الزمان يظن أنه هو على صواب مهما قال أو فعل، وأن من خالفه، أو يخالفه على خطأ أياً كان، ويرفض الحوار البناء، وهذه إحدى المٌعْضلات الكبيرة التي تواجه المجتمع بشكل عام.
قد تكون هذه أهم الأسباب وأغلب المسببات في تحليل نتائج انحلال المجتمع بشكل عام، وفي تفكك العلاقات الأسرية، وتدني في المستوى الأخلاقي، وانحراف في المستوى العقلاني، والميول أكثر إلى الأفكار الأجنبية، والدعايات الزائفة، والآراء الهدامة للبيئة الوطنية والمجتمعية دون أن يدرك ذلك الكثير منا.
الزمن لا يتوقف منتظراٍ أياً منا، والمأساة تزداد توسعاً، وتتغلغل اتساعاً، وصكوك الطلاق ترتفع نسبتها، وعدد الأرامل يتصاعد بشكل مخيف، ونحن مكتوفي الأيدي، دون الوصول لحلول واقعية ومنطقية.
أعداد الأطفال الأبرياء المشتتين أو المتشردين يتزايد، ينحرفون بلا رحمة ولا ذنب يقترفونه، سوى جهل أو سوء تصرف، أو التغلغل في عقول الأبوين أو الأبناء عبر وسائل التواصل الحديثة، وبث السموم فيها بأشكال مختلفة، وجرعاتٍ متنوعة.
الاعتراف بالخطأ فضيلة، والإقرار بالهزيمة أو الفشل شجاعة وقوة عظيمة تدفعنا لنتحسس الجروح فنداويها ونعالجها بروية وحكمة، ونتلمس الأخطاء ونصححها، ونتدارك السلبيات ونتلافاها.
الاعتراف بالحقيقة المرة التي أصبحنا نتجرعها رغماً عنا، والتعمق في دراستها وتحليل أسبابها، والجد والاجتهاد للوصول لكيفية معالجتها بأساليب واقعية مثل الترغيب والحوار البناء والحكمة، وليس بالترهيب والقسوة، تساعدنا كثيراً على العودة للصواب، إن فهمنا حقيقة ما يُحاك لنا، وإن جاهدنا بقوة -الله سبحانه وتعالى- وصبرنا وأيقنا بأن -الله سبحانه وتعالى- لن يتخلى عنا.
قد تكون هناك فكرة، أو وجهة نظر، أو حل للتصدي لتلك الهجمات الدنيئة، وحجب تغلغلها في المجتمع وبين الأفراد، لو يحرص كلُ منا على أن يكون القدوة الحسنة عن قناعة تامة، وأن يسعى لتصحيح المفاهيم عن العادات الحسنة، والتقاليد المحبذة، والقيم النبيلة داخل إطار المنهج الشرعي.
ويمكن أيضاً مساندتها ببرامج التعليم المبدئي، وتعديل بعض المناهج التعليمية في المدارس، وإعادة دور كبير العائلة، وتنمية دور الأخ والخال والقريب، وإعادة مكانة المدرس أو الأستاذ، ومحاولة تطوير دوره التربوي والتعليمي الحقيقي، ودور الجار والصديق تمهيدا لصحوة جديدة والعودة إلى الطريق الصحيح.
كم أتمنى أن تتحد الجهود، وتتكاتف العقول النيرة، وتتعاطف القلوب الطيبة، وتبرز الحكمة، ويتعاون الأفراد والجهات الخاصة والعامة ذات العلاقة لإنقاذ الوطن والمجتمع بشكل عام، والمحافظة على بقاء البيوت من الانهيار، وإنقاذ المرأة من الهاوية التي انزلقت إليها تحت شعارات زائفة، وانتشال هؤلاء الأطفال الأبرياء من هذه الحياة المرة التي أصبحوا يعيشونها رغماً عنهم، وإخراجهم من مستنقع الوحل الذي يطمرهم نتيجة لارتفاع نسبة الطلاق، أو الخلع دون خطيئة ارتكبوها، ولا ذنب اقترفوه، انتشالهم من حاضرهم التعيس، ومستقبلهم المظلم الذي ينتظرهم دون أن يكون لهم دور فيه.
[1] إسطنبول- تركيا.
[2] رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من أحق الناس بحُسن الصحبة، برقم (5514)، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين، برقم (4621). اختلفت الروايات والمعنى واحد، والتفسير أيضاً مختلف في الشكل، لكن الهدف واحد. يمكن مراجعة التفاصيل ومعرفة الأسباب لمن يرغب.
[3] الظهار هو التحريم الأبدي في الجاهلية، سمع الله عز وجل شكواها وتحاورها مع رسوله الكريم، فنزل التحليل في سورة المجادلة.
[4] الراوي سيدنا عبد الله بن العباس، وأخرجه أخمد بن حنبل.
[5] لعدم الإطالة، يمكن الرجوع لها في موقعي الإلكتروني في بند (الهمسات)