الجزء 5/5
بعد مغادرتنا مقاعد الجامعة تطورت الحالة وأصبح كل طالب يجلس على كرسي مريح مستقل بطاولة لها دُرج أو مكان لوضع الكتب والأدوات.
في هذا الزمن، تمادينا كثيراً في تدليل الأبناء والبنات، وازداد دلال الطالب وحَظِيَ بنعم كثيرة ومميزات عديدة، القليل منهم يعرف قيمتها المعنوية والمادية، والبعض منهم في مدارس خاصة، والبعض الآخر لا يعي مدى العناء الذي تتكبده الدولة، أو ولي أمره ليهيئ له هذا الجو التعليمي ليجعل منه رجل المستقبل وأمل الوطن.
كلما تطورت حياة الترف الغير منضبط، ونال الطفل كل ما يطلبه دون عناء، أو بِسَكْبِ قليلٍ من الدموع الزائفة، أو العديد من الصرخات الكاذبة والحركات المزعجة دون أن يُرْدّعْ، كلما نقصت قيمة الشيء المقدم له، وفقد خاصيته، وضاعت أهميته فتضيع القناعة، وتذهب المصداقية، ويكثر الملل، ويطلب المزيد باستمرار مهما كان الثمن الذي سيدفعه غيره، المهم أن يحصل هو على ما يريده وفي أي وقت يريده.
وهذا أسوء أساليب التربية -من وجهة نظري- وهم أكثر أطفال هذه الأيام عقبة في مسيرة التطوير الاجتماعي والمجتمعي والعلمي والثقافي، وأصْعَبِهِم تكيفاً مع مسيرة التنمية المستدامة.
أُهْمِلَ العقل تماماً مع وصول التكنولوجيا الحديثة وتطوراتها، والذكاء الاصطناعي سيزيد الطِّينَة بَلَّة.
تَسَارَعَ الزمن، وتَقَارَب العالم، وكَثُرَتْ المشاغل، وصُمَّتْ الآذان، وامتلأت القلوب بالهموم والأحزان، والحقد والحسد، والغِلِّ الدفين عند الكثير.
تحولت العقول لآلات وأجهزة صامطة جامدة تحركها بأصبعك لتنقلك من عالم لآخر، ومن حسبة بسيطة للبورصة العالمية وغيرها.
وبالرغم من كل تلك السلبيات الظاهرة، إلا أنه برز العديد من النوابغ من الجنسين، وظهر الكثير من المبتكرين والمبدعين، ولا يزال هناك الكثير لم يظهر بعد.
نقلة نوعية سريعة وعجيبة، تترك آثاراً سلبية عديدة لا تزال الكثير منها مخفية، وهي تنتشر كالنار في الهشيم.
لست ضد الحضارة، ولست متحاملاً على المسيرة التنموية، بل أسعى لأكون أحد عناصرها، لكنني قد أجد أن هذه النقلة النوعية السريعة في أمس الحاجة لدراسات عميقة، وتحليلات دقيقة من قبل فرق متخصصة للتخلص من سلبياتها المتنوعة، واستنباط الإيجابيات وتطبيقها، والبحث عن التطورات وتتبعها حتى تكون الفائدة أضعاف مضاعفة.
الحمد لله- أحرص على تعليم تلك المبادئ والقيم والعادات والتقاليد التي تعلمناها من أسلافنا، لأبنائي ونقلها لأحفادي وأحفاد أبنائي بأسلوب تربوي يتلاءم مع زمانهم، وأتمنى أن نظل نحافظ على هذا الإرث الطاهر مهما واجهتنا الصعاب، أو قاومتنا وسائل التحضر الزائفة.
كم أزداد غِبْطَةً وفخراً أنني من ذلك الجيل الذي له مشاركات عديدة، وأدوار فَعَّالَه كثيره فيما تراه من هذه الحضارة التي يعيشها من تلانا من الأجيال.
ذلك الجيل الذي ساهم في وضع الاسس والقواعد الصحيحة لمسيرة التنمية المستدامة، وله دور فاعل في الكثير من التطورات الحالية والرؤيا المستقبلية.
لقد كانت حياة من سبقنا وحياة جيلنا حياة محبة وتكافل، واحترام وتقدير، ومشاركة وجدانية بكل المعاني، ونوع من التعاطف المشترك في مسيرة الحياة.
إنما أكتبه عن ذلك المجتمع الذي عشت في جزء منه، وتعايشت مع القليل من أفراده، وما أعاصره بقدر ما تسمح به الظروف أن أدونه وأُوثِّقَه بصدق وأمانة، ما هو إلا قلقة القليل من الحقائق والوقائع عن ذلك الجيل المكافح، وأجزم بأن هناك الكثير مما نسيته، أو قد أتناساه، أو يعرفه غيري ولم يُدَوَّنْه.
قد يكون قصورٌ منا في حق أسلافنا، وتقصيرٌ من بعضنا في حق التاريخ القديم ورجاله، وخطأ جسيم في حق أبنائنا وأحفادنا لجهلهم بأمجاد أسلافهم.
تاريخ عريق، وعلم ومعلومات قيمة، وحقائق مجهولة بالنسبة للعالم، آن لها أن تظهر كالشمس الساطعة حتى يَكُفَّ الآخرون عن نعتنا بالعَالَمْ الثالث.
كَثِيرٌ من أبناء الجيل المعاصر يتجاهلون فَضَائِلَ وفَضْلَ أجيال أسلافهم، بعد فضل -الله سبحانه وتعالى علينا جميعاً- أو لا يفقهون عنه شيئا، مع أنهم السبب الرئيسي في كل ما يتنعمون به من نعم -الله سبحانه وتعالى- وهذا قصور واسع في حق أسلافنا، وتقصير كبير في توثيق عراقة تاريخنا وأصالة أمجادنا.
لذلك، من الواجب علينا أن نُدَوَّنْ أفعال أسلافنا، ونسطر تضحياتهم العديدة، وتُخَطُ محاسنهم بماء الذهب، ويُحْفَظُ تاريخهم في الصدور قبل السطور والكتب، وألا ننساهم من الدعاء وتقديم الشكر الجزيل لكل أفراده الذين شاركوا في تلك الأعمال الجليلة التي خلفوها لنا، أو وضعوا أسسها وبَنَوْ قواعدها لتكون لنا مرشداً لمستقبلنا، ومنهجاً لخططنا.
لا شك أن هناك مستويات اجتماعية ومجتمعية مختلفة عما عاصرته، أو نشأتُ بينه، لا أعرف عنها لأنني لم أعش بينها لأدون عنها، وأطمع أن يكون هناك عدة فِرَقْ عمل متكاملة من الجنسين، مخضرمة ومعاصرة متطوعة، وتتمتع بروح التعاون والمحبة، والحوار البناء، حباً في الله تعالى وتقديساً لمكة المكرمة، وتخليداً لذكرى السلف، وتذكيراً بتاريخنا العريق، تستفيد من التطورات التقنية الحديثة للتدوين والتوثيق والنشر والإعلام، وراحة بال، وإجابة على سؤال لأستاذنا الفاضل الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان -يرحمه الله- والذي قال يوماً ما [عرفنا تاريخنا القديم من الأزرقي وبعض الرحالة وغيرهم، فمن يا ترى سيكتب تاريخنا لأحفادنا]!! انتهي.
ليطمئن أستاذنا الفاضل الدكتور عبد الوهاب -يرحمه الله- وأبشره بأن عشاق مكة المكرمة ومحبوها وأبنائه وتلاميذه -بمشيئة الله تعالى- سينالون هذا الشرف العظيم بتوثيق كل ما يمكن تدوينه عن تاريخ أهالي مكة وسكانها وحاراتها وبرحاتها وأزقتها التي كانت تحتضن المسجد الحرام قبل مشاريع التوسعة -جزاهم الله خير الجزاء- وتحضيرها لعرضها وإخراجها طبقاً للأسس النظامية والقواعد التنظيمية والقوانين المنظمة لذلك.
لَعَلّه يكون لمؤسسة الفرقان التي أنشأها الشيخ أحمد زكي حسن يماني -يرحمه الله- وجعل لها وقفاً يُنْفِقُ عليها، وأسس لها مجلس إدارة، ولجان متخصصة لتدقيق جميع المعلومات ورصدها وطباعتها، لعله يكون لها دور فاعل في المساهمة بدعم هذا المشروع التوثيقي الوطني بكل ما يحتاجه لإخراجه بالكيف والكم الذي يليق بمقامه.
كذلك أناشد إخواني وأخواتي من أهل المدينة المنورة وسكانها، والمحبين للمصطفى صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا نفس الشيء بالنسبة للمنطقة التي كانت تحيط بالمسجد النبوي الشريف قبل مشاريع التوسعة السعودية.
كم أتمنى أن تحظى هذين المشروعان الوطنية القيم، العريقة التاريخ، بالدعم الكامل من قبل [كرسي الملك سلمان لمركز تاريخ مكة المكرمة بجامعة أم القرى، ثم الدارة لاعتماده ومنحه الرقم الدولي (ردمك)] بعد توثيق حقوق الملكية الفكرية، ومن ثم تبني نشره وتوزيعه، أو بيع مطبوعاته بأسعار رمزية على الحجاج والمعتمرين ليدركوا مدى الجهود الجبارة التي تبذلها الدولة بمشاريع التوسعة لتحقيق الراحة والطمأنينة لهم، ويتعرفوا على شيء من التاريخ العتيق للبلد الحرام والمسجد النبوي الشريف خلال العصر السعودي.
وأكثر ما أتمناه هو أن نزداد علماً وتعلماً، وأن تتضاعف معلوماتنا، وتتنوع ثقافاتنا، ويتسع نطاقها، ويتحسن مفهومها، وأن نكون أكثر ترابطاً اجتماعياً ومجتمعياً، وأقرب مودة وأخوية، وأكثر تطوراً عقلياً وفكرياً، وتمسكاً بالأخلاق الفاضلة، تلبية لأوامر -الله تعالى- ونداء البشير عليه أفضل الصلاة والتسليم، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمر، وأن نواكب مسيرة التطورات الزمانية والمكانية المختلفة بما لا يُخِلُّ بالقواعد الرئيسية، والمبادئ الأساسية.
نسأل الله تعالى- لنا ولكم جميعا الأجر والثواب.
نستودعكم الله حتى نلتقي في مقال آخر.
جزاك الله خيرااااواحسنت وفعلا يجب أن نحافظ على تلك االمبادىء والقيم والعادات والتقاليد آلتي تعلمنها من اسلافنا واجدادنا وننقلها الي أحفادنا بالأسلوب التربوي السليم الصحيح ونحافظ على هذا الإرث الطاهر العظيم مهما تغيرت الأزمان لاننا مسلمون وجزاك ألله خيراااا🤲💜
الله يعطيك الصحه والعافيه كفيت ووفيت