إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة ” حُقْبَاتُ التَنْشِئَة[1]”

الجزء 2/4

نسير للكُتَّابْ ثم للمدرسة ذهاباً وإياباً على أقدامنا بلا توصيل ولا مرافقة الأب أو الأم أو الشغالة أو السائق، بلا خوف علينا من حرارة الشمس وشدة الصيف طوال تسعة أشهر سنة دراسية كاملة.

نتقاسم مع زملائنا اللقمة الهنية والمصروف اليومي في الفسحة المدرسية بهللات قليلة وقروش يسيرة، ونتشاور معاً في أسرارنا الطفولية وحكاياتنا اليومية، ونتشارك ضحكاتنا الطفولية البريئة.

نحمل بيدنا اللوح الخشب للكُتَّاب، ونمسح الخطأ بقطعة من القماش القديم (الخرقة) ثم أصبحنا نحمل الكُتُبْ والدفاتر للمدرسة على رؤوسنا، في سجادة ملفوفة نفرشها على مقعد الدراسة حتى لا يتسخ الثوب من الجلوس الطويل على خشبة الماصة الجافة ويعمل قَلَقَة[2] في الثوب وما تقدر تلبسه في اليوم التالي قبل غسله، وليس في شنطة آخر موديل يحملها السائق أو الخادمة، ونجلس على خشبة ماصة سداسية ورباعية الأفراد، وليس على كرسي فردي مريح وطاولة أنيقة ومكان فسيح.

دخلنا المدرسة بالمرسمة، ثم القلم الخشب والحبر الصيني ثم بالقلم الريشة، ثم الحبر السائل في قارورة محكمة مع القلم بالريشة المتغيرة بحسب نوع الخط، ولم ندخلها بقلم آخر موضة، ولا بالهاتف الجوال والآيباد. استعملنا الخرقة كممسحة للأحرف والكلمات الخطأ، وللسبورة.

لم نشكو يوماً من طول المنهج الدراسي، ولا من كثرة الواجبات المنزلية، أو تكرار كتابتها، ولا من شدة الحر وتساقط العرق على وجوهنا ونحن في الفصل، استخدمت الدفتر والمروحة الخصف اليدوية للتهوية وتجفيف العرق، وليس في مكيف على أعلى درجة البرودة.

لم نقاطع المدرس، ولم نرمه بالطباشير أو نستهزئ به، ولم نتذمر من طول الحصة أو الخروج من مادة الدرس لمادة أخرى، بل نقدره ونحبه، وإن قسى علينا، ونُقَبِّلُ رأسه وأحياناً يده، ونُصْغي إليه باهتمام وعناية، ونستوعب منه كل حرف يقوله بتركيز شديد، وفهم عميق.

استخدمنا الخرقة ثم الكيس المحشي بالخروق ثم قطعة من الإسفنج لمسح الكتابة بالطباشير الأبيض والملون من على السبورة. الحصة ليست مادة واحدة، بل تربية مجتمعية وعلم ومعرفة وتبادل محبة.

أنا من الجيل الذي استخدم عتبة المجلس أو البسطة كطاولة أو مكتب للمذاكرة، ثم استبدلتها بتنكة القاز وهورية الحماط، قبل أن يكون عندي مكتب أنيق وكرسي مريح.

قرأت وكتبت على ضوء اللمبة التنك والقمرية ثم الفانوس والإتريك، وكتبت بالمرسمة ثم بالقلم الخشبي والحبر الصيني السائل قبل وصول القلم الريش، ثم القلم السائل ثم الجاف، المهم أن نتعلم ونفهم وندرك ونطبق بعلم وفهم واحترافية. 

لا أعتقد أن أحداً من أقراني نجا من العُقوبة في الفصل أو خارجه أو في الإدارة بالوقوف على قدم واحدة، أو القَرْمَعَة على الرأس، أو قرصة الأذن، أو فرص الأصبعين بين المرسمة، أو شحطتين من العصاية أو الخيزرانة، أو عَلْقَتْ السقا، أو القرمعة على خلف اليد بحافة المسطرة، أو علقة في الإحرام أو الفلكة، أو الحرمان من الفسحة.

ليس انتقاماً ولا ظلماً من المدرس للطالب، لأنه لن يستفيد لشخصه شيئاً من معاقبة الطالب، ولن يخسر شيئاً لنفسه إن تركه دون أن يعاقبه على الخطأ، وإنما العقاب لِمَصْلِحَتْ وَحَيَاتْ الطالب المستقبلية، والتي أخرجت أجيالاً يُفْتَخَرُ بها في شتى المجالات.

ورغم ذلك، لا أحد يستطيع أن يشكو المدرس لوالده حتى لا ينالَ عقاباً أشد، لأنه مقتنع بأن المدرس ليست له أي مصلحة شخصية من معاقبة ابنه، بل يعاقبه على الخطأ حتى لا يكرره، ويعلمه الصواب حتى يكون أهلاً للمسؤولية والأمانة التي ستناط به يوماً ما، وقد كان ذلك ولله الحمد.

لم يَسْتَذْكِروا لنا أولياء أمورنا دروسنا، ولم يكتبوا لنا واجباتنا المدرسية، بل جعلونا نتعلم الاعتماد على أنفسنا تحت مراقبتهم، وإرشادات المدرسة والمدرس. جيل أكتب القطعة عشرة مرات، وإذا أخطأت تعيدها عشرين مرة، وإذا ما كتبتها ممكن تعاقب بالضرب والوقوف طول الحصة على قدم واحدة، أو وقوفك عند باب الفصل من الخارج حتى يشوفوك كل طلاب المدرسة والمدرسين وممكن المدير يمر ويشوفك، وعندها يا ويليك.

حفظنا جدول الضرب الصغير والكبير من الغلاف الخلفي للدفتر، وتعلمنا الكثير من الأمثلة وعبارات الحكم المكتوبة أيضاً على الغلاف الأمامي أو الخلفي له، أو في ساحة المدرسة.

أتقنا فهم الجدول الكيميائي، وحفظنا أسماء ومصطلحات وتقسيم عناصره ومحتوياتها، وتعلمنا طريقة تطبيق استخدام جدول اللوغرثمات الرياضي.

كنا نحل المسائل الرياضية على السبورة أمام الطلبة والمدرس يراقبنا، لضمان عدم غِشِّها، والتأكد من فَهْمَكْ للمادة وقدرتك على تحليل المشكلة، وليس حِفْظَكْ للطريقة، وتحضيرك للخَطَاَبَة في المستقبل.

كنا ننجح بدون دروس تقوية ولا مدرس خصوصي، واختبار في كامل المنهج من الجلدة للجلدة، وبدون أي بدائل أو خيارات بالإضافة للمعلومات العامة.

أترككم في رعاية الله حتي نلقاكم بمشيئة الرحمن في الجزء الثالث.


[1] الصحيح (حُقْباتُ التَّنْشِئَة) وليست (حُقْبَتْ التَّنْشِئَة). شكراً لأخي الكريم على هذا التصحيح اللغوي. -جَلَّ من لا يَسْهُو-

[2] القَلَقَة هي البقعة أو اختلاف اللون المؤثر والدال على عدم النظافة. 


8 ردود على “همسة ” حُقْبَاتُ التَنْشِئَة[1]””

  1. ذكريات جميلة كدنا ننساها وسط زخم الحياة الحديثة.
    اسلوب رائع وسلس ومهضوم.
    والعجيب أن اسلوب الحياة الدراسية ذلك كان سائد على نفس النمط في معظم المدن حتى لدينا في المدينة رغم تباعد الأقطار وعدم توفر وسائل الاتصال.
    زدنا زادكم الله من فضله. وسلمت الأنامل.
    حفظكم الله.

  2. جزاك الله خيرا استاذ ابراهيم اسهمت وابدعت فى الوصف على ما تربينا به فى الماضى ، احببت اضافة اننا كنا نذهب ونعود الى ومن المدسه اما سيرنا على الاقدام او بركوب خط البلده ان توفر شئ من المصروف وكنا لا تبالى ولا نتأخر حبا فى الحصول على العلم .
    كذلك كان احدنا ان طلب منه الاستاذ ان يقف عريفا فى الفصل يراه باقى الطلبه كانه مديرا خوفا من كتابة اسمه ان اتى بشئ يخل بالنظام والهدؤ
    شكراً

  3. بارك الله اخينا الفاضل د. ابراهيم جستنية وكلام حقيقي عن حقبة فريدة من الزمن كانت التربية فيها هي الاساس وقبل التعليم فخرج جيل استثنائي قامت على اكتافه الدولة وحقق نجاحات وارتقت في سلم الحضارة والحمد لله على ما اعطانا ووفقنا له ونتمنى ان تعود التربية لفصولنا الدراسية خاصة ونحن نشاهد ازمات اخلاقية شتى وفساد اجتماعي كبير .. ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. تصوير لغوي رائع
    حين قرأت بعيني مرت بمخيلتي كل هذه الاشياء وكأنها شريط سينمائي اراه بعيني
    بارك الله فيك اخي ابراهيم

  5. كلمات ومعاني وذكريات وحقائق ومقارنات جميلة
    جزاك الله خير ياابا يوسف وزادك الله علماً وتنويراً

  6. أسلوب أدبي رائع يسجل حقبة تاريخية للدراسة في مدارسنا قبل حوالي ٥٠-٦٠ سنة.
    كان بعض أساتذتنا يعملون مسابقات ترفيهية في منازلهم لطلبته. مثل الأستاذ عقيل، رحمه الله، مدرس القرآن والتجويد في المدرسة الرحمانية الابتدائية في مكة المكرمة. وكان منزله في ربع ربع أطلع، بعد دكان المكناتي.
    رحم الله أستاذتنا وزملاءنا. ويرحمنا حين نصير إلى ما صاروا إليه.

التعليقات مغلقة.