إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة “الانتماء”

للحارات والأحياء القديمة في مكة المكرمة طبقاً لما عشناه مع أجدادنا، أصول وقواعد عديدة يعرفها معظم الناس في ذلك الزمان، ويرعى تطبيقها كبار الشخصيات وعمد المحلات، لكل منهم دور فاعل في المجتمع الحجازي القديم، وقد يشتركوا في بعض الأمور. أهم شيء ألا يكون هناك خصام أو تخاصم بين السكان ولا بين الحارات، وأي خلاف قد ينشأ لا يصل للجهات الحكومية بل يفصِله عمدة المحلة أو كبار الشخصيات بالحي حتى وإن تطلب الأمر تحمل أعباء مالية.  

       الحمد لله- نجحت في اصدار كتاب “رجل المهمات الصعبة” بعد جهود مضنية، كنت خلالها أدون بعضاً من ترجمتي المصاحبة لترجمة العديد من العلماء والفقهاء والشخصيات التي عاصرتها وتعلمت منها الكثير، وذكرت الحارات التي تنقلت فيها.

       حاولت مراراً منذ عام 1400هـ، القيام بعمل مجسم مصغر للمسجد الحرام قبل عام 1375هـ، ذكرى للأجيال القادمة وحفاظاً على التاريخ الجميل الذي نعتز به، واشتريت عدة قطع وأدوات يدوية من المعارض الأجنبية الدولية التي كنت أزورها، أو أُدعى لها خارج المملكة حتى أصبح لدي أدوات كثيرة ومتنوعة تسهل على ذلك.

بدأت في وضع الفكرة العامة على ورق وكتبت الخطوات المطلوبة وبدأت العمل التنفيذي التدريجي بحسب أوقات الفراغ، لكن كثرة المسؤولية عن أعمال والدي -يرحم الله- التي أناطها بي لم تعطني الفرصة الكافية لتنفيذ كامل الفكرة.

تمت إزالة تلك الأماكن التاريخية العتيقة ولم يعد منها إلا الذكرى الجميلة عند عاشقيها وما بقي في الذاكرة مع الحسرة والندامة على فقدان أصولها دون أن تؤخذ لها صور واقعية متكاملة ومعلومات من الطبيعة، وتدوينها وتوثيقها.

نشأت مجموعة متطوعة بجهود فردية ومضنية لجمع معلومات عن سكان الحارات والأحياء التي تمت إزالتها من حول الحرم (المجموعة الأولى) والثانية لرصد وتوقيع مواقع ومحتويات تلك الحارات والأحياء على كروكيات ومخططات جوية لذلك الزمان، ولبيت شاكراً دعوة الانضمام لهما. تعرفت على الكثير من الإخوة والأخوات الأفاضل، منهم من لا يزال يقيم فيها بقلبه وعقله وجوارحه، ومنهم من ترك قلبه فيها ورحل بجسده لسواها سعياً للمعيشة ومتطلباتها. عمل جميل وجهد موفق وفعل مشكور، يتعاون في تنفيذه فرق متعددة، تحت راية المحبة ومبدأ الإخلاص وقاعدة الانتماء.

الحمد لله الذي حقق رجائي، فقد ناديت بهذا كثيراً ودونته في مقدمة كتابي “رجل المهمات الصعبة“، وبقي أن تتم بقية أمنياتي تلك، بعمل شريط سينمائي رائع، ومجسم كبير معبر ومتميز بكامل المعلومات والإرشادات، وعمل معرض متكامل للصور، ومتحف متكامل ليتحقق بقية الحلم، وعمل حي أنموذجي استثماري متكامل بجميع الخدمات والمتطلبات وسمته ب “الحي النموذجي للحارات والأحياء القديمة بمكة المكرمة” مماثل لما كانت عليه تلك المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، وعمل المتحف والمكتبة المكية[1] في محيطه، وأن يكون خارج منطقة الحرم حتى يمكن لغير المسلمين من زيارته، وفتحه للزيارة والسياحة برسوم، ويصبح الكلام واقع، والخيال حقيقة. أتمنى أن أرى هذا قريباً.

لا أعرف كيف تكون عملية الانتماء للحارة! بسكن الوالد فيها! أم بالولادة فيها! أم بسنوات معيشة الشخص أم الأسرة فيها! وكيف يمكن تحديد تلك الفترة الزمنية! أم بقواعد أخرى لا أعرفها! ولأيهم تكون الأولوية إذا تنقل المرؤ لعدة حارات، راغباً أو مكرها! وما هي المبررات أو الأسباب لتحديد ذلك!

 لذلك تعذر عَلَيَ تحديد الحارة التي قد أنتمي لها، لأنني ولدت في حارة، ونشأت في أخرى، وعشت في ثالثة، وانتقلت لرابعة وخامسة.

طرحت هذه المداخلة عن (الانتماء للحارة أو الحي) على المجموعة الأولى لداستها وتحليلها بعد الرجوع للقواعد المتخذة من قبل أسلافنا، والاتفاق على أسس وقواعد عامة يمكن تطبيقها دون تأثير سلبي مؤثر. يبدو أن الأمر لا يزال قيد الدراسة حتى تاريخ هذا النشر. وآمل مِنْ مَنْ يستطيع المساهمة في هذه الدراسة أن يدلي بدلوه لوضع تلك القواعد.

كذلك طرحت فكرة توحيد ترقيم الحارات بحسب الأولوية أو المكانة التاريخية لها مع ذكر أسباب المسميات، وتوزيعها على أساس مسمياتها وتقسيمها قبل عملية أول توسعة في العهد السعودي، لأنها تحكي الواقع الملموس والمحسوس في ذلك الزمان، وليس على أساس الوضع الحالي كما يرى البعض، لوجود اختلاف كبير بين الحالتين، يختلف عن الهدف المنشود، ويبدو أن الأمر لا يزال قيد الدراسة حتى تاريخ هذا النشر.

كما طرحت فكرة وضع تلك الأرقام على مخطط جوي عام وموحد يضمن تلك الحارات والأحياء ويكون المرجع الرئيسي لجميعها في أي معلومة أو موضوع. ويبدو أن الأمر لا يزال أيضاً قيد البحث والدراسة حتى تاريخ هذا النشر. وآمل من المجموعة المسؤولة عن تحقيق ذلك أن تسارع في خطواتها كسباً للزمن، وتحقيقاً للأهداف السامية المنشودة من ذلك.

لن أتخلى عن ثقتي بكم، ويقيني بأنكم ستصلون للرؤيا المنشودة، وسيتم بإذن الله تعالى تدشين توثيق ما جمعتموه من معلومات وتوقيها على المخططات، فسابقوا الزمن قبل أن يرحل عنكم، وخلفوا لأجيالكم قدوة حسنة، وذكرى خالدة، وتاريخاً عريقاً مجيداً.   

أكرر جزيل شكري للمجموعتين وجميع فرعهما، ولكل من يساهم في تحقيق الأهداف السامية المنشودة في محبة مكة المكرمة بلد الله الحرام، ومولد رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم، ومحبة وطننا الغالي.


[1] المكتبة المكية بينت تفاصيلها في همسات سابقة همسة ل “عشاق مكة المكرمة، طلب انقاذ” موجودة في الموقع بند (همسات)

ردّين على “همسة “الانتماء””

  1. ماشاء الله تبارك الله مجهودات متميزة وجبارة من شخصية رجل المهمات الصعبة وسوف يذكر التاريخ ما فعلته من مجهودات وانجازات كبيرة لان الحي النموذجي للاحياء والحارات القديمة في مكة تحتاج الي دقة كبيرة في المعلومااااات وعن عدد العوائل وجزاك الله خيرااا الاستشاري المهندس ابراهيم بن حسين جستنيه

  2. نحن أبناء الماضي .. نواكب الحاضر ونتطلع إلى المستقبل.. وإن غدا لناظره قريب ..
    دمتم بخير..

التعليقات مغلقة.