الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، أداؤه لمن استطاع إليه سبيلا. مناله إلى ما قبل حوالي قرن ونيف من الزمان كان ضرباً من الخيال أو نوعاً من المغامرة الانتحارية حتى انتشرت مقولة (الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود) لِمَا كانت تحف رحلته من مخاطر جمة، وقد يكون ذلك أحد أسباب الاحتفالات التي كان يقيمها أهالي العائدين من الحج في كثير من الدول بأمن وسلام حتى عهد قريب.
من إحدى العادات الحسنة منذ القدم عند معظم أهل مكة المكرمة وسكانها والمقيمين بها وبعض من أهل الحجاز، الحج كل عام منفرداً أو بعائلاتهم، -ما لم يكن مسافراً أو مريضاً- أو الحج في مجموعات، أو في ضيافة أحد المقتدرين، أو يحج تعريفة، ويتألم كثيراً من يتأخر عن الحج، وينعت نفسه ب “بالداجج”.
حياة الناس في الماضي بسيطة رغم الظروف المعيشية القاسية، لكن العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الحجازي قوية جداً والمحبة تغلب أكثرهم، وكثير من الأثرياء وكبار الشخصيات في ذلك الزمان لهم مواقف عظيمة وعجيبة ولاتزال موجودة في بعضٍ من ذرياتهم، يدركون جيداً الأوضاع الاقتصادية، ويعرفون العادات والتقاليد، ويشعرون بأحاسيس الآخرين.
كان البعض منهم يقيم صيوان أو مخيم في عرفات مزود بكل متطلبات الضيافة، يستضيف فيه الضيوف من الداخل والخارج -بحسب حالته المادية ومنزلته الاجتماعية- ومن الأهل والأصدقاء والمعارف، وعابري السبيل، أو الحجاج من أي جنسية، مرحباً بهم دون تفرقة ولا عنصرية، بالإضافة لعلمهم ومعرفتهم بقواعد الحج الشرعية، ويمكنهم أو ممن معهم الإجابة على تساؤلات السائلين، تخفيفاً على الحجاج وطلباً للأجر والثواب.
قصة عجيبة حدثت في حج عام 1368هـ، لم يسبق لها مثيل حتى الآن، تركت آثاراً عميقة وذكريات مختلفة، ومواليد وسموا بها.
كانت سنة مختلفة كثيرا عن سابقاتها وما تلاها حتى عام 1442هـ، عجيبة في حالها، وشديدة في واقعها وغريبة في أحداثها، لن ينساها التاريخ مهما طال زمانه، ولن يتناساها من عاصرها مهما تباعدت أيامه، أصبحت مرجعاً يُؤَرَخُ به لدى البعض لسنوات طويلة.
من عجائب الصدف أن يكون للوالد حسين جستنيه -يرحمنا الله جميعاً- في ذلك العام مخيم كبير في عرفات، تضمن العديد من أفراد العائلة والضيوف من الداخل والخارج، صيوان كبير مستقل للرجال وآخر للنساء، والطباخ وأعوانه في مخيم خاص.
ما لبثت شمس ذلك اليوم أن تزول عن كبد السماء وتنقضي صلاتي الظهر والعصر في جمع تقديم، وينزل الخطيب من على المنبر، وينتهي الناس من تناول طعام الغذاء في سرور وسعادة، وتجمع لبعض الحجاج على جبل الرحمة للوقوف قرب مكان وقوفه صلى الله عليه وسلم تبركاً وتقربا، وآخرين في الخيام، تعالت فيها أصواتهم بالدعاء والاستغفار، حتى تغيرت حالة الجو فجأة، حُجِبت الشمس، تراكمت السحب، وتلبدت الغيوم حتى كادت تُظْلِم الدنيا، فوجه الوالد جميع من في ضيافته للسيارات تحسبا للظروف، وكلف العاملين بجمع الأمتعة. أخذت الرياح الباردة تشتد شيئاً فشيئا، وهبوب العواصف يتزايد شدة حتى اُقْتِلعت الخيام، وهَدمت الصواوين، وتطاير الأثاث، وتفرق الناس طلباً للأمن والأمان.
تفرقت الجموع وضاع الكثير عن موضع مخيمه، وتطايرت السجاجيد والجلائل والحنابل ولم يبق شيءٌ في مكانه، وبدأت مياه السماء تنهمر بغزارة شديدة، مصحوبةً بحبات البَرَدْ الكثيفة والكبيرة المتلاحقة القادرة على فتح الرأس وإسالة الدماء عند سقوطها عليه، وترك أثر مزمن في الجسد إذا أصابت موضعاً منه، والرياحٍ العاتية لا تستقر على حال.
صاح الناس رجالاً ونساءً وأطفالا مستجيرين بالله سبحانه وتعالى وطالبين الاستغاثة. ألم بنا ما ألم بالجميع، الكل يقول نفسي، نفسي، يبحث عن النجاة تحت وبين أي شيء يمكن أن يُظِله ويردأ عنه المطر الغزير والبَرَد الكثيف والبَرْد الشديد. ضاع كثير من الأطفال والنساء، وتاه العديد من الحجاج عن مخيماتهم، وهرب البعض للسيارات وتحتها بحثاً عن الحماية.
أما الوالد -يرحمه الله- فكان رجلاً شجاعاً صبوراً، قام مسرعاً وقد اشتعلت الشهامة، وحَمِيَتْ النخوة، وارتفعت درجة الإدراك بالمسؤولية،
هَبَّ مسرعاً باحثاً عن بقية الأهل والضيوف الكرام وخاصة الأطفال، وملبياً نداء المستجيرين، مسعفاً للضائعين وآوياً للتائهين، وحامياً للمسنين، ومحافظاً على النساء، متحملاً لسعات البَرْد القارس، وضربات البَرَد المؤلمة، وغزارة المطر المنهمرة متجولاً بين أنقاض الخيام والصواوين في العراء، يودعهم في إحدى السيارات الصغيرة بين أهله وضيوفه، والأطفال والشباب لإحدى السيارات اللواري الأخرى وتحت رعاية أخيه عبد الرحمن -يرحمها الله- الذي كان يقف كالأسد صابراً أيضاً على ضربات البَرَد ولسعة البَرْدْ كأخيه حسين، يُلقي عليهم بعض الجلائل والحنابل في حوض السيارة اللوي لحمايتهم من لسعة البَرْد وضرابات البَرَد وغزارة المطر، مهوناً عليهم الأمر، طالباً منهم الهدوء والسكينة والتوقف عن البكاء والصراخ والخوف، ويبث فيهم روح الشجاعة والطمأنينة.
لم تعد تميز بين الليل والنهار وماء السماء يزداد انهمارا، حتى اقترب موعد الغروب، والكل يستغيث ويطلب الرحمة.
أخذ البَرَدُ يتوقف والرياح العاصفة تخف رويداً رويدا، وانهمار المطر يتراجع تدريجياً حتى توقف، وقد اشتدت العتمة على المكان ولم تعد ترى شيئاً من شدة الظلام، وعمق الخوف مما كان.
بدأت تظهر صيحات المستجيرين من بين الخيام المتساقطة والحنابل المتراكمة، ونداءات الباحثين عن ذويهم، وتصاعدت أَنَاتُ المصابين، وبكاء الأطفال المدفونين بين الخيام وتحت الأثاث والناس منشغلون بأنفسهم، كل يبحث عمن فقده من أهله وذويه أو عن مقر مخيمه، والقليل من أخذ يتجول لمساعدة المستغيثين وتلبية نداء المستجيرين. واصل الوالد وعم عبد الرحمن صنيعهما حتى بعد توقف المطر والريح والبَرَدْ حتى يئسا من أن يجدا أحداً لإنقاذه او مساعدته في تلك العتمة الشديدة والبرد القارس.
أسدل الليل ظلمته على عرفات بعد أن حجبت السحب ضوء الهلال عنها، ولم يبق من الأتاريك والفوانيس شيئا، اشتدت لسعة البرد، ولم يعد بالإمكان البحث عن المفقودين أو التائهين أو معرفة مواقعهم، ولم يعد هناك مجال لمزيد من البحث أو البقاء أكثر من ذلك، فأخذ من وجدهم وتوجه بهم إلى مشعر منى وأنزلهم بداره الحديثة البنيان والتي لم يكتمل بناءها ولا تأثيثها بعد، تشرفت تلك الدار الفريدة باستقبالهم وضيافتهم في حب وسعادة ومواساة، بين أهله وضيوفه وشملهم بعطفه ورعايته.
لم يكن من السهولة في ذلك الزمان امتلاك مبنى أو أرض في مشعر منى، لكن منزل الوالد كان قريباً من الجمرة الصغرى، مكون من خمسة أدوار بالأسمنت المسلح، وفي جزء من الحوش ملحق للرجال ومكان للعاملين على الخدمة وللطباخ ومستلزماته.
لم يمض يوم النحر حتى تمكن الوالد من معرفة أسر هؤلاء الضيوف الذين حضروا لاصطحاب من فقدوهم وهم غير مصدقين بنجاتهم. كانت فرحتهم لا تقدر بثمن وشكرهم -لله تعالى- أولاً، ثم للوالد ليس له نهاية.
كان ذلك اليوم يوماً عصيباً، مليءً بالفزع والخوف، نال فيه البعض الكثير من ضربات البَرَد حباً في الله، وتضحية وشجاعة لإنقاذ المستجيرين، وكرم ضيافة.
بقيت آثار ضربات البرد من تلك الحجة علامة تاريخية مميزة على صدر الوالد -يرحمه الله- وظهره حتى وفاته عام 1412هـ، ذكرى لأحداث ذلك اليوم والموقع، واشتهر ذلك العام ب “حجة أو سنة البرد” وأصبحت مرجعاً تاريخياً لمعاصريها، وسجلاً مرجعياً لما تلاها عند البعض لزمن طويل، بقصة عجيبة، عاصرتها شخصياً، وعُرٍف تاريخ بعضِ مواليدها بها حتى بدأ ضبط سجل المواليد، فنسي كثير من الناس ذلك اليوم العجيب وتاريخه المجيد وحكاياته الغريبة.
عُرِضَتْ فيديو على “منصة أكاديميون الثقافية” مساء الثلاثاء 06/12/1443هـ، 05/07/2022م، ضمن ندوت “الحج بين عبق الماضي وإشراقة الحاضر“
كنت ضمن من كانوا في عرفة حيث انني حججت مع والدة والد والدتي عبد الرحمن كتوعة ووالدته خديجة جمال ، كان عمري بين الثامنة والتاسعة ، وكنت في معيتها في خيمة النساء واذكر ان احد صبيان جدي لامي عبدالرحمن كتوعة ، واسمه على ما اذكر جار النبي ، دخل الخيمة عند بدء الرياح واسند عمود الخيمة لكي لا تسقط على قاطنيها…. وكل ماذكرته في مقالتك عشته واتذكره بكل ما وصفت