الجزء 3/5
نَبَّتَ آباؤنا في قلوبنا حب العبادة -لله سبحانه وتعالى- ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم، ونشر السلام، والتمسك بالأخلاق الفاضلة، والقدوة الحسنة، والقيم الحميدة، والعادات المحبذة، والتقاليد المستحسنة، ورَغَّبَوُنا في فضائلها كجانب نظري، وأردفوه بالقدوة الحسنة في الجانب التطبيقي، كالصلاة مثلاً جماعة في المسجد الحرام عندما كنا في جزء منه، وفي المنزل مع جميع أفراد الأسرة الصغير قبل الكبير بعد أن هُدِمَتْ بيوتنا المحيطة به، وبالذهاب لأحد المساجد أحياناً في الحي الذي أصبحنا فيه.
اللهم ارحمهم وأكرمهم من واسع فضلك، واحشرهم في زمرة الأولياء والصالحين، وألحقنا بهم برحمتك يا أر حم الرحمن والصلاة والسلام على خير المرسلين.
نواصل تدويننا عن الجيل الذي كنت في جزء منه. جيل المحبة والتآخي، جيل الافتخار بالكتابة والقراءة باللغة العربية الفصحى.
أعشق الكتابة بخط اليد الجميل، وكأنها حباب اللؤلؤ المصفوفة بدقة وعناية، كُنْتُ من رواد مكتبة المدرسة، وأعضاء المجلات الحائطية، والأنشطة الثقافية الإذاعية والمسرحية والرياضية، والمسابقات الشعرية في المدرسة، وبين المدارس وبعضها البعض في نهاية كل عام دراسي، حين كانت المدرسة إحدى أهم الروافد لإخراج الشباب ذوي المواهب المختلفة المجالات والمحدودة الاختصاصات لقلة تنوعها آنذاك.
تلك الأيام الجميلة كانت بداية تعلقي بالقراءة الحرة وحب الاطلاع.
معظم المدارس للأسف، أصبحت تعلم مناهج تحفيظ وتكرار دون فهم ولا إدراك، معلومات نظرية بعيدة عن التطبيقات العملية وكيفية تتابعها، وتَخْريج كثير من الطلبة البعيدين عن المتطلبات المعاصرة، والقيم الفاضلة، والعادات الحسنة، والتقاليد المحبذة.
لو طُوِّرَ المنهج التربوي السابق ليواكب العصر، لكانت الأجيال أكثر أدباً، وأفضل تأدباً، واوسع علماً وأكثر فهما، وأَشْمَلَ مَنْفِعَةً.
أغلب مدرسي هذا العصر أفقدتهم بعض الأنظمة التي تنادي بالحرية المفتوحة احترامهم، وانقص جهلهم العلمي والثقافي من تقديرهم، جعلت منهم مهزلة يَتَسَلَّى بها الطلاب سيي الأدب، وكُثْرُ هم للأسف في هذا الزمان.
لم يستشعروا بعد ما عاناه الجيل السابق أو جيل أجدادهم وآبائهم، وكيف تمكنوا من التغلب على تلك الصعاب وتذليل الكثير من العقبات ليهيئوا لهم ما هم فيه من نعم وسعادة.
كم من العناء نالهم لتحقيق أهدافهم، ورسم خططهم لمستقبل جميل ينعم به أبنائهم بدلاً عما عاصروه!
كنا نشتري الكتب وكل المستلزمات المدرسية رغم قسوة الحياة المعيشية، ونحافظ عليها من التلف، والبعض يُعطيها بعد نجاحه لطالب آخر نجح لتلك السنة ليستفيد منها، ويصرف قيمتها في شيء آخر. طالب اليوم يحصل عليها مجاناً، ويلقيها في صناديق النفايات وهو خارج من قاعة الامتحان ليس لديه وقت.
الدفاتر ننزع منها الورق المستعمل إن كان قليلاً، ونعيد استخدامها أو إعطائها لطالب محتاجها، وطالب اليوم يلقيها في صندوق النفايات حتى وإن لم يستخدم منها سوى صفحة واحدة.
كنا نستخدم المراسم والقلم الخشب البوص، ونتعلم طريقة تجهيز أو قص وبري ريشته وقطع رأسه بالزاوية المناسبة لكتابة الخط المطلوب (رقعة، نسخة، ثلث، غيرها) والسماكة المناسبة حتى لا يسيل الحبر أو يترك أثر جانبي في الحرف أو الكلمة أو النقطة أو الحركات التشكيلية لها.
نستخدم الحبر السائل أو الصيني الأسود، نشتريه على شكل قطع صغيرة نذيبها في الماء الحار ونتحكم في كثافته بالتجربة، ونضعه في قارورة (الدواية) صغيرة بغطاء محكم بعد وضع مجموعة من الخيوط الشعرية بداخلها لتتشبع بكمية من الحبر حتى لا يسيل الحبر عند غمس القلم فيه، وأثناء الكتابة، أو لا يبرطش على الورقة، قبل أن يتواجد القلم بقربة لملئها بالحبر الذي أصبح يباع جاهزاً في زجاجات صغيرة مخصصة.
كانت أفضل الأقلام الجاهزة ذات الريشة الحديدية أو المعدنية الجميلة والخط الحسن في ذلك الزمان -بحسب معلوماتي- القلم الباركر موديل (51،21) واعتقد أن وكيله كان عم معروف باجمال ودكانه في المسعى عند مدخل زقاق البلدية، أمام باب السلام الكبير تحت بيتنا، والقلم الشفرليت موديل (21، 61،51) وكيله عم صديق الميمني، دكانه في شارع فيصل من ناحية القشاشية، وتلتها أقلامها الجافة.
كانت بداية السيل لنوعها وأناقتها، ثم تلتها مراسم في شكل قلم تُبَاعُ طقم ثلاثي أو زوجي أو فردي. القليل من يقتنيها لغلو ثمنها نسبة للمستوى الاقتصادي آنذاك.
كنا نتعلم مصطلحات القرآن الكريم والمواقف وأنواعها والغُنة والشَدة والتَّنْوِين والمَدَّة وغيرها من المصطلحات والقواعد الأساسية، ونحفظ عن ظهر قلب -غيب- جزئي تبارك وعَمَّ.
كل هذا في المرحلة الابتدائية، وندرس الفقه بحسب المذهب الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أو المالكي، والتاريخ والجغرافيا وغيرها.
تأسيس ديني ودنيوي قوي بمعلومات أولية مهمة لجميع مراحل الحياة، ننطلق بعدها للعلوم وغيرها.
نتعلم قواعد النحو والصرف في أبيات شعرية لألفية بن مالك نحفظها ونجيد تطبيقها، لا أزال أذكر منها هذا البيت:
مُعَرَّفٌ بعد إشارة بِأَلْ # يُعْرَبُ نَعْتاً أو بَيَاناً أو بَدَلْ
نتعلم تطبيق قواعد الإملاء والإنشاء والخط بأنواعه، والنحو والصرف والبلاغة حتى نكون قادرين على إجادة الكتابة والفصاحة اللغوية والبلاغة النحوية وحسن التعبير.
الأستاذ يراجع كل شيء لكل طالب، الخط والنحو والصرف والإملاء والتنسيق، ومكان النقطة والشَّوْلَة لا يترك أي شيء، ويعلمك الصواب، ويحاسبك على الأخطاء.
في رعاية الله حتي نلقاكم في الجزء الرابع.
ذكريات جميلة وسرد أنيق موفق.
ما اجمل ان نعيش معكم تلك الذكريات التي برغم بساطتها تحمل حبا وصدقا وجمالا ، أدام الله عليكم الصحة والعافية
ماشاءالله تبارك الله الله يعطيك الصحه والعافيه ويمد في عمرك في طاعة الله
سرد جميل وممتع لحالنا في ذلك الزمن الله يرحم من علمك وادبك