إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة “المتغيرات”

تطرأ على المجتمع تطورات متنوعة وتغيرات عجيبة بين الحين والآخر، تساهم في وضع المقاييس وضبط المعايير لمعدل التغيير المقبول والغير مقبول على المستوى العام والخاص، وترسم لنا مبادئ الحقوق والواجبات والمسؤوليات للأفراد والجماعات في معظم الأوقات، وترسيخ المفاهيم السليمة والمحبة وحسن التعايش مع الآخر، والمساهمة في الأعمال التطوعية التي تكسب الفرد الخبرة والمعرفة، وترشده لنبذ العصبية والقبلية والعنف، وإلغاء كلمة فاشل من قاموس حياة النضال والكفاح والإبداع والاختراع، ليدرك أن قوته بالعلم والمعرفة والأخلاق الفاضلة شيء أساسي يرتبط بقوة الدولة في جميع سلطاتها وتوجهاتها.

       طغت سياسة العولمة المزعومة والدخول في حياة العولمة المفروضة بالمسيرة الشكلية لما يطلق عليها (التنمية المستدامة) فككت عُرَى توثيق كثيرة، وقَطَّعَت العديد من تلك الحبال المتينة التي كانت بين أطراف المجتمع الداخلي والخارجي.

       توالت النتائج السلبية لتلك العولمة على معظم حياتنا، فاتسع نطاق التباعد أو الهجر، وانفتح طريق الهجرة، وتمسكنا بما يستجد من وسائل التقنية والحُجَج الواهية حاضرة ومخَزَنَة في الهاتف الجوال وغيره، أو على سطح الكمبيوتر مع دوران عجلة الحياة التي لابد لها من أن تستمر دون انتظار أحد، والعمر لا محالة يتناقص بمرور الأيام، والرجوع للخلف أمر مستحيل، والتفكير في المستقبل شيء بديهي، ونحن لا نزال متأرجحين دون قرار.

       أصبحت أيام أسلافنا ذكريات ماضية الحدث، قريبة الزمن بكل ما تحمله من تاريخ عريق ومحبة متبادلة طبيعية، يجهلها الكثير من أبنائنا، وربما لن تصل لأحفادنا لأننا لم نوثق حقائقها وأحداثها لهم، وللعالم ليعرفوا عراقة تاريخنا المجيد.

       نحن نفقد تاريخنا بأنفسنا، ونضيع حضارتنا بجهلنا لها، ونتناسى أمجاد أسلافنا، ونهدم علاقاتنا مع بعضنا ومع الآخرين، ونسير عمياناً خلف المغرضين والحاقدين، لأننا لم نحسن توثيقها، ولم نحرص على تطويرها دون المساس بأصولها. نتربع على الأطلال نبكي حالنا، ونأسى لمآلنا الذي لن يقدم أو يؤخر شيئاً من واقعنا طالما بقينا دون عمل جاد، وصحوة علمية وثقافة وأخلاقية واقتصادية.

       لا ندري هل صخب الحياة، وكثرة ارتباطاتها المتشعبة، له أثر في هذا التراجع الكبير أو الانقطاع المرير! أم أن المصالح الشخصية باتت تلعب دورا هاما في حياتنا، فانتشر المبدأ الخاطئ (الغاية تبرر الوسيلة)!

       هذه الوسائل التي غيرت مفهوم الحياة الحقيقية، وتجاهلت المبادئ الأساسية لها، وجعلتنا نعيشها كهواية أو في الخيال البعيد، دون إحساس ولا مشاعر ولا استثمار لأهدافها الحقيقية، بعد أن كثر الحسد وضعف الايمان، وتقلص اليقين، وانخفض أو انعدم مستوى القناعة، واصبح العم والخال ومن في حكمهم، والأخت والأخ ومن في حكمهما، والأسرة والعائلة، والترابط الوثيق بينهم ومعهم أسماء وعبارات سريعة، قد نتذكرها بين الحين والآخر بعد أن كانت جزءً لا يتجزأ منا، وعنصراً أساسياً من حياتنا.  

       المجد والعلا لا يتحققا بالأماني والأحلام، أو الكلام والهيام، بل بالعمل الجاد المشترك، والإبداع المتميز، والإخلاص المتواصل، والتعاون المتبادل في شتى المجالات والتخصصات من جميع الأطراف وعلى كافة المستويات الخاصة والعامة من القمة للقاعدة، وهذه مسيرة الرؤيا.

       العلاقات الاجتماعية عنصر مهم في حياة الإنسان، وإحدى مقوماتها منذ نشأتها، والأخلاق الحميدة قاعدتها الأساسية منذ الجاهلية وأيدها القرآن الكريم ووجهنا بها سيد الأولين والآخرين، والأدلة عليها كثيرة ولا أخال أحداً يجهلها.

       خطوات المضي للأمام تحتاج جراءة وشجاعة وخطة محكمة للسير والانتقال السليم لحياة الحداثة والتطوير وفق رؤيا لها أهداف واضحة، داخل منظومة إرث أخلاقي حميد، ومستوى ثقافي مجيد، وقيم عظيمة، وعادات محبذة، وتقاليد اجتماعية لها اعتباراتها مع احترام متبادل، تحقق الاستقرار والأمن والسلم والسلام الاجتماعي والمجتمعي الداخلي والخارجي. نحافظ بها على السير على المنهج الحسن للسلف، نطوره مع مجريات الأحداث ضمن المنهجية الشرعية العامة وتوجيهات سيد البشرية عليه أفضل الصلاة والسلام.

       الحقيقة التي لا مفر منها، تؤكد أن الحياة تجري بأحداثها، وتسير بمتغيراتها، وتمضي بمعاصريها، والأفكار تتوالد عند مفكريها، تتجاهلها فئة، ومحط اهتمام فئة أخرى، والتغيير حقيقة لا مناص منه، والاختيار حق شخصي، والتباين فيه مشروع في حدود المشروعية، والعاقل من فاز بالأحسن.  

       كم أتمنى (تمنى الرجاء، وليس تمنى الأحلام)! أن تكون الغالبية من الفائزين!!