تمضي بنا سنوات العمر ننتقل فيها من مراحل الطفولة لعدة محطات من الحياة المتنوعة، ومن فصول سنوات دراساتها المتدرجة حتى تقدمت بنا السنين، وبَلَغْنَا من العمر عتيا، ونحن في صحة وعافية وفضل كبير، ونعم لا تعد ولا تحصى -بفضل من الله سبحانه وتعالى- وقد ازددنا علماً، وحصدنا معرفة، واتسع فكرنا، واستوعب عقلنا العديد من الأحداث، وتنوعت الخبرات، وزادت الحنكة، وترسخت الحكمة.
كل يوم يمضي بنا نكون فيه أكثر فهماً ووعياً وإدراكا، وأوسع حنكة، وأدق حكمة.
اللهم علمنا ما ينفعنا في الدارين، وانفعنا بما علمتنا، ووفقنا لينتفع غيرنا مما تعلمنا.
مضت سنوات العمر تباعاً، ضعف خلالها القوي، واقترب البعيد، وتفرقت الجماعة، واشتعل الرأس شيبا، واكتست الذقن والشنب بياضا، وظهرت التجاعيد على جلد اليدين، واختل توازن القدمين، وضاقت الخطوة، ونحن في صراع مع مسيرة الحياة.
نبحث خلالها عن الأمان والصدق والوفاء، والابتسامة البريئة، والمحبة الصادقة التي كانت غالباً ما تغمر حياة أجدادنا وكان لنا منها نصيب، رغم ضعف إمكانياتهم، وقسوتها عليهم، وصعوبة معاملتها معهم، وأخذت تتلاشى من حياتنا تدريجياً كلما تعمقنا في عالم العولمة بعد أن ظهرت حقيقتها.
نهيم في الحياة، وحولنا أبناؤنا وأحفادنا يملؤون علينا الحياة بهجة وسعادة، نسير معاً مع تطوراتها في حذر وتحفظ وانضباط بقدر المستطاع.
نواكب المسيرة بتوازن وحكمة، يرافقنا أحياناً بعضُ الأشقاء وبعضٌ من أبناؤهم، وقليلٌ من الأهل والأحباب والأصدقاء.
تارة نبحث بين سنوات عقودها عن قلوب نقية كقلوب الأطفال البريئة، التي تكاد تكون معدومة منذ أن حل علينا عصر التفكك الأسرى والحرية الزائفة، والدعايات الكاذبة، والشعارات الهدامة.
وتارة نبحث عن المحبة المتبادلة، والترابط الاجتماعي، والتكافل المجتمعي، والمسؤولية المشتركة، والقيم الضائعة، والعادات المحذوفة، والأعراف المنسية، والتقاليد المهجورة، والمبادئ المتناقضة.
وتارة أخرى نتمنى لو يعودَ بنا الزمان كما كان في عصرنا على الأقل، حياة مليئة بالمحبة المتبادلة والابتسامة العريضة، وهي طبعا لا تخلو من المتناقضات النسبية والتناسبية -سنة الخالق عز وجل في كونه-
كلما نظرنا حولنا في عصرنا الحاضر، يداعبنا الحنين للماضي البعيد، والأمس القريب، يؤرقنا الشوق الدفين بحثاً عما كان فيه من أيام جميلة قد انقضت ولن تعود، وسنوات طويلة قد انطوت وطوت معها أحداثاً كثيرة، وساعاتٍ عديدةٍ قد مضت.
كانت لا تغادرنا فيها الضحكات، ولا تنقطع خلالها الابتسامات، ولا تغيب عنها السعادة النسبية.
نشعر برغبة قوية وملحة، لو يعود بعضاً من تلك الأيام السعيدة دون قيود ولا مسؤوليات ولا هموم.
لكن، هيهات! هيهات!! فما يذهب من سنوات العمر بما حملته من أحداث متنوعة وحكايات مضحكة لن يعود.
إنما هي أمنيات الظمآن في الصحراء، المهرول نحو السراب.
كم يردد المريء منا بصوت مكتوم، وقلب مهموم ونفس ضائقة! وآهات طويلة! وشهيق عميق! وزفير شديد!!!! ليت تلك الأيام الخوالي، أو شيءٍ منها، يعود يوماً ما حاملاً بين طياته الكثير من تلك الذكريات الجميلة.
ما أجمل أيامها وما أحلى لياليها تلك! وما أكرم جيلها بعد -الله سبحانه وتعالى- عشنا لحظات فيها بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ بريئة، وكلمات عذبة، رغم ما كان فيها من قسوة وصعوبة.
ذاك لا يعني أننا لا نحب جانباً من الحياة المعاصرة وما فيها من تطورات تكنولوجية متنوعة وممتازة، بل نتطلع فيها لحياة معاصرة وفق المنهجية الصحيحة، ولا نزال نجاهد فيها لبناء مستقبل زاهر -بمشيئة الله وتوفيقه- قال تعالى {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ*} الآية (88) سورة هود.
نجاهد جهاداً يواكب المسيرة، ويحقق الأحلام، ويسعى للمزيد من الطموحات والرؤيا المستقبلية، ناظرين للأمل والطموح، دون يأس ولا خضوع، قال تعالى {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ*} الآية (87) سورة يوسف.
نسعى ونحن نتعم بنعم -الله سبحانه وتعالى- ونسجد شاكرين له على كل عطاياه وعظيم فضله، وعلى الحبيب نصلي حتى يوم الدين. قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ*} الآية (172) سورة البقرة.
نتحفظ على الجانب الآخر منها، لقوله تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ*} الآية (10) سورة الشورى، وعلى ما قد يكون في أغلب الأحيان مختلف المنهج، متغير القيم، متباعد العادات، منعدم التقاليد، فاقد الأعراف، متذبذب المبادئ، متلون الأحوال وفق الحال، ونسأله أن يتداركنا بلطفه وإحسانه.
قلما كان يحدث ذلك في ذلك الماضي الذي كنا في ساعات قلائل منه!! حتى القريب منه!! بالرغم من نعته بالعصر الرجعي، ونعت معاصريه بالبسطاء، وهم كذلك في حياتهم وتعاملاتهم، وعلماء نسبة لزمانهم، ونعتهم بالجهلة، وهم بريؤون من الجهالة، والتاريخ حافل بتضحياتهم، والواقع برهان على منجزاتهم.
كلمات وعبارات كثيرات دفينة في أعماق قلبي من ذلك الماضي الممزوج بشيء من الحاضر، المتطلع للمستقبل، تفيض شوقاً، وتكتسي محبة، وتمتلئ بالأمل، وتشتعل بالطموح بين الحين والآخر، استشفها من قوله تعالى {نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى*} الآية (13) سورة الكهف.
أحاول تدونها كل ما فاضت من أعماقي، في “همسة، أو همسات” متتالية، ينطلق بها ذاك القلم التاريخي العريق سريعاً عوضاً عن لساني، ليناجي بها إحدى القصاصات القريبة، أو صفحة اللاب توب الحديثة، بشيءٍ من ما استتر عن الأسماع وغاب عن الأبصار، وحُجِبَ عن القراءة، يُرْصِدُها بلهفة وشوق، بألم الأعضاء، ووجع الجسد، ودم القلب، وجُرْحِ الفؤاد، أخفف بها عن نفسي شيئاً من عبئها الثقيل، وأضيفها لبعضٍ مما أرصده في أحد مطبوعات المجموعة، أو في همسات مثل “حُقْبَاتْ التَّنْشِئَة” و “ثلاثية الشخصية” و “متلازمة الزمن الجميل وجيل الطيبين” و “ذاك هو الإنسان” وغيرها من التي سبق أن نُشِرَت في الموقع، أو قد تنشر لاحقاً، أو أضيفها لما بالأرشيف من رقعات متنوعة الموضوعات، مختلفة التخصصات، انتظاراً لما قدر تسمح الظروف بطباعته، أو نشره على الموقع يوماً ما، إن كان في العمر بقية.
أُذَكِّرُ بها جيلي ومن عاصرنا، وأَتَذَكَّرَ بها أسلافنا ورفاقنا وأحبابنا وزملاءنا -يرحم الله من غادرنا منهم- ويبارك لنا في من بقي منهم.
أدعو لهم جميعاً من أعماق قلبي، وأشكرهم فرداً فردا على صحبتهم ومصاحبتهم، أو زمالتهم.
واستوحي من قوله تعالى {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِين*} الآية (120) سورة هود، فأتركها همسات على صفحات التاريخ، وذكريات وحكايات وعِبَرٌ للأجيال القادمة، تُذَكِّرهم بأمجاد أسلافهم، وتستنفر فيهم النخوة، فيترحمون عليهم ولا ينسوهم من الدعاء، فيشملهم معنى الحديث الشريف [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ (إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له][1].
استنير بقوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ۚ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ*} الآية (12) سورة لقمان.
فأتوجه بجزيل الشكر وعظيم الامتنان للملك الديان على كل نعمه التي لا تحصى ولا تُعَدُّ، والحمد لله على كل حال حتى يرضى الله- ونسأله سبحانه وتعالى لنا ولهم ولجميع المسلمين الصحة والعافية، والعفو والرضا، ومصاحبة حبيبه عليه أفضل الصلاة والسلام للتمتع بالنظر لوجهه الكريم -سبحانه وتعالى-
[1] رواه أبو هريرة في صحيح مسلم.
ماشاء الله تبارك الله علي وصفك باشمهندس ابراهيم جستنية للزمن الجميل الذي عشناه ذلك زمن لن يتكرر لأننا عشناه بقلوبنا الصافية وبراءة الطفولة كم كنت رائع ومن كثرة ما قرأته تعيد القراءة مرة أخري لانجاذبك لاحداث عشناها سلمت يداك حقيقي يالغالي علي ذلك الوصف للطفولة والبراءة والفرحة والأصدقاء وحتي احلامنا الصغيرة جزاك الله خيرااا وياليتنا نرجع لذلك الزمن
بارك الله فيك وامد في عمرك على طاعته سبحانه وتعالى
دائماً مايخطه قلمك يعود بذاكرتنا إلى أيامنا الماضيه التي عشناها في طفولتنا وشبابنا
نسأل الله يمتعنا واياكم بالصحة والعافيه وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا ووطننا وولاة امرنا
انه سميع مجيب
الهمسة خساسة جدا خصوصا في الجانب الذي يخص العولمة واثارها في المجتمع ومقارنة ذلك بالماضي المتين الاصيل بكل مافيه .بالتوفيق دوما والى الامام .
بارك الله فيك يابشمهندس احسنت القول والوصف ..
ماشاءالله لاقوة الا بالله زمن جميل دائما نقول لن يتكرر ولكن ان شاء الله جميع أيامنا احلى وأجمل بتوفيق الله عزوجل م ابراهيم جستنيه ابدعت في ذكريات الماضي الجميل الله يوفقك ويسعدك ويحفظك
كلامكم نابع من القلب..يعبر عن فكر عميق وحكمة كبيرة..تم التعبير عن كتير مايدور بداخلنا بتعبير صادق في عبارات أدبية رشيقة..أرى أن يتم في أقرب وقت تجمبع كل تلك الخواطر في كتاب يتم نشره لعموم الفائدة وليبقى شاهدا على فكر مستنير مصاغ بعناية جواهرجي..وجزاكم الله خيرا ..
سلام عليكم ورحمة اللة وبركاتة
عطر الله جسدك بريح الجنه وسلمت يداك وزاد الله فكرك وذكرك ، بماتقدمه لنا ولجيل المستقبل من ذكرا يدق في عالم النسيان
يادكتورنا العالم المحكم لنا في علقاتنا العلميه ولعمليه ،
حفظك الله ،
ابنك وحبيبك المهندس /غيث ابوطلال
ما شاء الله تبارك الرحمن … مقال جميل يدل علي ما وصلتم اليه من الحكمه والإبداع في الوصف