إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة عبر الأثير

همسة من الأعماق أبثها عبر الأثير، مع نسمات الفجر العليل، وعبير الزهور والورد والياسمين، تتردد دون انقطاع إلى أن يُهيئ الله لها من يسمعها بقلبه، ويستوعب معناها بعقله، ويفهم مضمونها بإحساسه، ويرسم برامجها بدقة، ويحقق أهدافها بفعله، ويوصلها للرؤيا الطويلة الأمد.

تتطور مسيرة الحياة المعاصرة بشكل متسارع شبه لحظي، وتحدث أحداث كثيرة مفاجئة، وأحداث متوقعة، وأحداث غير متوقعة، مما يوجب القلق ويدعو للحيطة والمزيد من الحذر.   

كان الأسلاف في السابق يعتمدون على الحفظ الشفهي لنقل المعلومات والأنساب وغيرها ويتوارثونها أجيالاً بعد أجيال، ثم حان عصر الكتابة بمراحله المتعددة، وتلاه عصر الطباعة الورقية بمزاياه الكثيرة وعيوبه المحدودة، لكنها بقيت الأكثر أماناً على بقاء كل العلوم والمعلومات ونقل الحضارات، ولا أدل على ذلك من كتاب الله المبين، المنزل على الرسول الأمين، حفظه الله سبحانه وتعالى- من التحريف والتغيير، فكانت طباعته ورقياً أفضل وسيلة لانتشاره السابق في بقاع الأرض وبعدة لغات دون تحريف ولا تغيير.

ارتفعت تكاليف الطباعة، وبدأت الوسائل الحديثة لنشر العلوم والمعلومات بعدة لغات بترجمة فورية وتبادل الثقافات بطرق شبه لحظية، مما تسبب في ضعف الاهتمام بعمليات تطور طرق وأساليب الحفظ والكتابة والطباعة الورقة، فأخذ في التغيب عن الساحة تدريجاً، وأقبل الكثير على استخدام أحدث الطرق بأقل التكاليف، ولمسة الأصبع.

لا شك أن التطور شيء جميل جداً بكل المعاني ضمن الإطار العام، لكن هناك أموراً يجب المحافظة عليها لأنها الأكثر أمناً وأمانا، والوسيلة الأفضل للمحافظة على كل أنواع المقتنيات.

لقد سبق أن كتبت كالكثير غيري من المهتمين والمختصين عن ضرورة المحافظة على طرق الحفظ والكتابة والطباعة الورقية، ودارت في الصحافة مناقشات عديدة حول هذا الموضوع، لكن العاصفة كانت شديدة، فتبعثرت الصفحات في فضاء فسيح، وتاهت النداءات بين ذبذبات الأثير حتى يكاد يُسْدَلُ الستار على قاعدة الحفظ والكتابة والطباعة الورقية. لم تكن عاصفة شديدة وحدها، بل تبعها تيار جارف كان أقوى من كل المقاومات بكثير، ولا يزال شديداً يجرف كل ما يعترضه أو يجده في طريقه.

لو حدث حادث ما مثلاً، عُطْلُ مفاجئ في القمر الصناعي، أو ضرر أو ما شابه ذلك، ستتوقف جميع وسائل التواصل والاتصالات عن أي دولة كما يحدث الآن لروسيا كمثال واقعي نتعلم منه العبر، ونأخذ منه دروساً عديدة، من فرض العقوبات، وحجب وسائل التواصل، وقطع الاتصالات اللاسلكية وما ينتج عنه من أضرار بليغة. لم تعد الحياة الطبيعية مضمونة، لأن نظامها يستند على مبدأ القوة، وفرض السيطرة، والخضوع للأمر الواقع.

ترى كيف سنتمكن من استكمال تدوين وتوثيق الماضي! وكيف يمكننا استخراج المعلومات! وكيف يمكننا معرفة وحفظ وتدوين المستجدات! وكيف يمكننا مواصلة الحياة بعد أن ركزنا كل اعتمادنا على تلك الطرق والوسائل التي لا نملك القدرة على التحكم فيها! ولا نستطيع حمايتها من التلاعب بها! ويتعذر علينا حماية أنفسنا مما قد يصيبنا من أضرار جسيمة لو توقف أو حُجِبَ القمر الصناعي عن البث على دولة ما!! 

 الحيطة واجبة، والحذر مطلوب، وحسن النية وارد، لكن الواقع متغاير، والمصالح متقلبة، علينا أن نأخذ العبرة من الحياة، ونتعلم من دروس الآخرين أو مما يحدث لهم، وأن نحرص على تجنب الوقوع فيما أُسقطوا فيه، أو انزلقوا إليه، وعلينا أن نجد المرادف والبديل وتوفير الاحتياطي، وأن نكون مستعدين تحسباً للظروف الطارئة.

قد يكون من الضروريات الشديدة الإلحاح في ظل هذه الظروف المتضاربة عالمياً، الأخذ بعين الاعتبار هذه الدروس التطبيقية الحالية على روسيا وأمثالها، وما يبدو في الأفق من التحركات الصينية، وسرعة اتخاذ قرار فوري بالعودة السريعة لاستخدام طرق الحفظ والتدوين والتوثيق المطبوع لجميع ما لدينا من مستندات ووثائق وصور وكتب ومجلات وصحف وغيرها، وما يستجد لضمان المحافظة على إرثنا التاريخي العريق، وعلمنا وعلومنا وكتبنا ومعلوماتنا ومقتنياتنا على اختلاف مستوياتها وأثمانها، المكشوفة للغير، والتي قد يمكن التلاعب بها، أو حجبها عنها، إذا لم نعتبر مما يحدث لغيرنا.

قد يكون من الأفضل الأخذ بعين الاعتبار سرعة تطوير وتطبيق أنظمة وطرق الحفظ والكتابة والطباعة الورقية، والعمل على تقليص سلبياتها لتواكب المسيرة، والعودة لاستخدامها، مع حفظ أكثر من نسخة مطبوعة من موجوداتنا وفي أماكن مختلفة تحسباً لكل الاحتمالات، بالإضافة لاستخدام الطرق الحديثة لمواكبة مسيرة التنمية المستدامة.

هذه همستي الخالصة لوجهه الكريم، وهديتي بمناسبة شهر المحبة والقرآن، أبثها عبر الأثير في هذا الشهر الفضل، متمنياً أن تُسمع بإنصات دقيق، وتُفهم بقلب مخلص رشيد، وتُدرك بمشاعر وطنية خالصة، وأن تصل لعقل وقلب كل مواطن في أي موقع، وكل من يعشق القراءة والكتابة الورقية وحفظ الوثائق والمستندات المختلفة، والمحافظة على تاريخنا العريق، بأن تحظى هذه الهمسة بسرعة تطبيقها، وأن تحظى بالعناية الخاصة من كل من يستطيع تحقيق أهدافها وتنظيم خطط رؤياها للحاضر والمستقبل

والله المستعان.  

حرر في 09/09/1443هـ، 10/04/2022م.