إبراهيم بن حسين جستنيه

دراسة عن “جبل الكعبة”

أول من استوطن مكة المكرمة هما السيدة هاجر وابنها الرضيع سيدنا إسماعيل بن سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليهما وسلم، بأمر إلهي.

قال تعالى {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ*} الآية (37) سورة إبراهيم. قصتهما معروفة.

كذلك قصة السيدة هاجر وصعودها على جبلي الصفا والمروة سبع مرات معروفة. 

إذن، مكة المكرمة شرفها الله- وادٍ غير ذي زرع كما ورد في الآية الكريمة (37) في سورة إبراهيم. تحيط به العديد من الجبال المشهورة منذ القدم. تتوسطه الكعبة المشرفة ببنائها القديم، ويحيط بها المسجد الحرام.

قصة استيطان بعض القبائل العربية لمكة المكرمة، مجاورين للسيدة هاجر وابنها سيدنا إسماعيل، ومركز مكة التجاري العظيم في رحلتي الشتاء والصيف معروفة.

قال تعالى { لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ* (1) إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ* (2) فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ* (3) ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ* (4)} لا يجهلها جاهل.

بدأت تُبْنى الدور حول المطاف، وتوسعت واتسع المطاف تدريجياً بزيادة عدد الزائرين والحجاج.  

ظلت تحتضن المسجد الحرام البيوت والمحلات التجارية والحارات والأزقة القديمة وبعض الشوارع بسهولها وجبالها ومنحدراتها، وأهلها وسكانها وذكرياتها الجميلة.

تميزت مكة المكرمة بالكثير من المزايا والخصائص[1]، وتميزت خمس فئات خاصة من مستوطنيها، لكل فئة أو قبيلة ميزة خاصة ومسؤولية عظيمة.

لأهل مكة المكرمة وسكانها بصفة عامة خصائص وميزات لم تكن لأهل أي بلد آخر.   

كانت تغمرها المحبة المتبادلة، وتزينها مجالس العلماء، ودواوين المقتدرين، وبرزات العمد والمطوفين والمناسبات الدينية والوطنية العديدة التي توثق تجمعاتهم وتبرز تراحمهم.

نالت بعض من تلك الجبال شرف عظيم ومكانة رفيعة لا يزال الكثير منا يجهلها، ولا يعرفه أبنائنا ولا أحفادنا، إلا القليل منهم. يفقدها أغلبية الحجاج والمعتمرين.

يمكن لبعضها أن تكون ضمن خطة الآثار والمآثر التاريخية العتيقة بمكة المكرمة، وأحد الأماكن المتاحة للسياحة ضمن الرؤيا 2030م.

سأتطرق لبعضها في عجالة:  

جبل النور، نال شرف صعود أشرف الخلق عليه. فاز بوجود غار حراء الذي كان يتعبد فيه صلى الله عليه وسلم، ونزل عليه الوحي فيه بأول سورة في القرآن الكريم { {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*} الآية (1) سورة العلق، فكان بداية مهبط الرسالة.

جبل ثور، فاز بشرف الاختباء في غاره يوم رحيله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من مكة المكرمة في طريق هجرته للمدينة المنورة ومعه صاحبه سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه.

سبق أن طرحت أكثر من مرة دراسة مبدئية لمشروع إنشاء تلفريك للصعود إليهما، بخدماته اللازمة منذ أكثر من أربعين عاما. لم تنجح للأسف محاولاتي العديدة آنذاك.

الحمد لله- بدأت عمليات العناية بهما عام 1441هـ، 2020م، ضمن “مشروع تطوير غاري حراء وثور” تمهيداً لإحياء معالمه التاريخية، وجعله أحد الآثار والمآثر المفتوحة للسياحة طوال العام.

نأمل مراعاة العناية الفائقة بهما وبأحجارهما لما نالاهما من شرف عظيم، وأن تطبع لهما نشرات وثائقية يمكن توزيعها على الزوار.

هضبتي الصفا والمروة، قصتهما مع السيدة هاجر. نالتا شرف صعودها عليهما[2]. أصبح الصعود عليهما أو على أطرافهما جزءً من أداء نُسُكَيِ الحج والعمرة. تمت توسعتهما ضمن مشروع توسعة المسعي لعدة طوابق.

جبل أبي قبيس، وهو خلف هضبة أو جبل الصفا. حَظِيَ بشرف اطلاق أول أذان من فوقه. ظل سيدنا بلال رضي الله عنه، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن من فوقه في مكان بني فيه مسجداً صغيراً وسُمي ب “مسجد سيدنا بلال” ظل فترة طويله مهمل ثم أغلق. هُدِمَ ذلك المسجد التاريخي العريق.

للجبل اطلالة وعدة أزقة على حي القشاشية وشعب علي وأجياد. كان مكتظاً بالمساكن البسيطة ذات الدورين والثلاثة عبر أزقة ضيقة ومنحدرات وعرة ومنعطفات صعبة، ودرج أغلبها مكسرة، وخدمات صعبة. كانت توجد في مطلعه بعض البيوت ذات الطوابق الخمسة.

أزيل جزء كبير من جبل أبي قبيس ضمن مشروع القصور الملكية. أزيلت جميع المباني التي كانت عليه ضمن مشاريع التوسعة.

لا يَعرف عن كلاهما الكثير من الأجيال الحالية. ستجهله الأجيال القادمة والحجاج والمعتمرين، ما لم توثق معلوماته وإحداثياته وأحداثه.

فقده العالم كله، وفقد متعة الصلاة في ذلك المسجد الذي كان يذكرنا بشيء من الصعوبات التي واجهت الدعوة الإسلامية في بدايتها.

جبل الكعبة، يقع على بعد حوالي (2كم) غرب المسجد الحرام. هو أبعد الجبال المحيطة بالمسجد الحرام، وأقربها جبل الصفا وأبي قبيس.

يبدأ جبل الكعبة شمالاً من منطقة حارة الباب، يتجه جنوباً حتى طريق الحفائر، أو شارع أم القرى حاليا. يمتد غرباً حتى امتداد مخرج نفق الفلق-ريع الرسام نزولاً لموقع سيدي محمود نهاية ريع الرسام بداية التيسير وجرول.

الخرائط الجوية القديمة، وبعض من الصور القديمة لتلك الأحياء، موجودة في قوقل وأطلس مكة[3]، توضح مواقع تلك المعالم التاريخية العتيقة.

نال جبل الكعبة شرف كبير وميزة عظيمة، وهي تكليف سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام بتقطيع أجزاء منه وتشكيلها ونقلها تلك المسافة الطويلة لتُكَوِّن جداراً للكعبة المشرفة.

قال تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* (129) سورة البقرة.

هو أحد الآثار الإسلامية العتيقة جداً. يمكن أن يضاف للمعالم السياحة بعد توثيق المعلومات الأثرية التاريخية والجيولوجية عنه وطباعتها في نشرات إرشادية. 

يعتبر جبل الكعبة من الجبال الصلبة جداً، القاسية التقطيع والتشكيل، خاصة في ذلك الزمان الذي لا تتوفر فيه إلا القليل جداً من العدد اليدوية البسيطة جداً، والمعدات البدائية الصعبة، والتي يعتمد استخدامها على قوة الرجل وصلابة قوامه وقدرة تحمله.

كانت مبنيه عليه كثير من المباني ذات الأدوار المتعددة بين أزقته المتعرجة ومنحدراته الطويلة، يسكنها كثير من أهل مكة المكرمة وسكانها ومطوفيها.

الكثير من الباحثين والدارسين والكُتاب، وملايين المخطوطات والمؤلفات الموجودة في العالم. التوسع التكنولوجي الكبير في شتى المجالات، وسهولة توفر المعلومات في هذا العصر. كل ما مكني -الله سبحانه وتعالى- من قراءته والاطلاع عليه حتى لحظات كتابة هذه الأسطر.

كل ذلك، لم يرشدني للحصول على أي كتاب يوثق تلك المعلومات عن الجبال التاريخية والمآثر العتيقة بمكة المكرمة. لم أجد ما يبين أو يفيد عن الحكمة من اختياره لينال ذلك الشرف العظيم والميزة المنفردة لبناء جدار الكعبة المشرفة.

أنا على يقين تام، وقناعة متناهية بأنه توجيه إلهي، وحكمة إلهية في الدرجة لأولى.

إلا أن ذلك لا يمنع العلم والتطورات التكنولوجية الحديثة، من البحث والتحليل والتفسير العلمي والمعلوماتي، والفحص المخبري، لِيُظهر لنا ولو القليل من تلك الفوائد التي ميزته عن غيره، حتى نزداد علماً وفهما، وقد يفيدنا في عدة مجالات أخرى.

حبذا، لو يحاول المختصون معرفة الحكمة من استخدام أحجاره في عملية البناء منذ ذلك الزمن، للاستفادة منها.

 قد تكون قوة تحملها لعوامل الطبيعة، وربما خصائص جيولوجية أخرى، إحدى أسباب اختياره.

هذا الجبل العظيم الشأن “جبل الكعبة” تمت للأسف الشديد إزالة جزء كبير منه، وإنشاء مبانٍ شاهقة على جزء آخر، وفتح طريق على جزء ثالث منه. ربما بقي منه جزء يسير على الطبيعة مجهول الهوية.

       حريٌ بنا أن نحافظ على ما بقي من هذا الجبل العظيم الشأن، وعلى ما يُسْتخرج من أحجاره، لشرف مكانته، ولإمكانية استخدام شيء منها مستقبلاً لإصلاح ما قد يُتْلِفُهُ الزمان من تصدعات أو تلفيات في جداد الكعبة المشرفة.

إذ يتعذر استخدام حجارة جبال أخرى امتثالا لمنهج سيدنا إبراهيم عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة والسلام، فلو كان بالإمكان لما تحمل العناء والمشقة ولأخذ من الجبال القريبة من الحرم.

أطمع أن تقوم الجهات ذات العلاقة بتدوين وتوثيق المعلومات الخاصة ب “جبل الكعبة” والمحافظة على ما بقي منه.

كذلك الحال بالنسبة لبقية الجبال التاريخية في مكة المكرمة، توثيق معلوماتها وطباعتها في نشرات، حتى لا يُحَرِّفها البعض.

ستكون هذه الجبال والمعالم ضمن اهتمامات الجهات المعنية بالآثار والمآثر العريقة التاريخ، وهي كثيرة في مكة المكرمة وما حولها، كجبل قيقيعان وجبل السبع بنات وجبل الرحمة وغيرهم.

       لعل هذه الفكرة أو الدراسة البدائية السريعة عن “جبل الكعبة وبعض الجبال والآثار والمآثر الأخرى في مكة المكرمة” تصل للجهات المعنية.

أنا على يقين تام بأنها ستكون ضمن اهتماماتها وتحقيقها، تمشياً مع مسيرة التنمية المستدامة والرؤيا 2030م.

       وبالله التوفيق.


[1] راجع كتاب الجامع اللطيف في فضل أهل مكة وسكانها والبيت الشريف. الشيخ جمال الدين محمد جار الله بن محمد نور الدين بن ظهيرة. 1357هـ، 1938م.

[2] السيدة هاجر هي زوجة سيدنا إبراهيم ووالدة سيدنا إسماعيل عيهما أفضل الصلاة والتسليم.

[3] راجع الأطلس المصور لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة الرقمي، للدكتور معراج نواب مرزا والدكتور عبد الله صالح شاووس ومحمد معراج مرزا.، وأطلس خرائط مكة.

3 ردود على “دراسة عن “جبل الكعبة””

  1. احسنت النشر وبارك الله فيكم لاهتمامكم في هذا المجال اهل الحرم أهل الكرم

  2. جزاك الله خير .. معلومات رائعة لم أكن أعرفها من قبل.
    واقتراح مهم أرجو أن يؤخذ به ولو بعد حين. لا حرمك الله الأجر، حفظكم الله وبارك فيكم.

  3. جزاك الله خير عم ابراهيم على المعلومات القيمة والتي لايعلمها حتما ابناء هذا الجيل..وكلنا امل في حكومتنا الرشيدة الاخذ بالاعتبار للمقترحات المقدمة من حضرتكم وما يتماشى مع رؤية المملكة 2030.
    وجزاكم الله عنا خير الجزاء.

التعليقات مغلقة.