إبراهيم بن حسين جستنيه

إتقان الوسائل البديلة

يشهد العالم المعاصر الكثير من التغيرات والتطورات المتسارعة العلمية والعلمية والتطبيقية في شتى المجالات والتخصصات دون توقف أو تمهل أو انتظار المتخلف ليلحق بالركب بعد أن انفتح العالم على ساحة كبيرة وسماء واسعة ، وأفق بعيد ، غير قادر على إدراك مضمونه ، أو مدرك لمفهومه .
فبناء الإنسان هو الثمرة الحقيقية للوجود بعزة وكرامة ، فإذا لم نستفيد من الخبرات والكفاءات الوطنية الموجودة لدينا ، فقدناها وفقدنا مستقبل أبناءنا ووطننا ، وزدنا تأخراً ، وقلة علم، وعدم معرفة.
في ظل التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم في شتي الأمور ، تتولد لها ردود فعل إيجابية كثيرة ، يجب أن نواصل السعي نحو تنميتها واستثمارها ، كما تظهر لها ردود فعل أخرى عكسية سلبية ، وهو شيء طبيعي ، نحرص على تداركه وتلافيه حرصا على عدم اتساع سلبياته .
بدأ تصحيح المسار ، وتواجدت بعض الآذان الصاغية ، وإن أطرقت طويلاً ، وانفتح باب الحوار البناء ، وأخذت الأقلام تسطر الحقائق وتشرح الوقائع ، وتناقش وتطالب بالحساب والعقاب والمكافأة والتقدير .
أخذت البعثات العلمية في الانطلاق كأول خطوة نحو تعديل خط السير للاتجاه السليم ، بالرغم من العقبات التي تعترض مسيرتها ، والأخطاء التي لم تعالج أسبابها ومسبباتها ، ووضعت بعض القواعد العريضة لمستقبل اقتصادي واجتماعي طويل الأجل ، ورُسمت بعض الخطط لمراحل متنامية الأطراف ، راسية القواعد ، خاصة بعد أن أصبحت الهندسة تشكل الجزء الأكبر والأهم في مسيرة حيانتا الخاصة والعامة .
من أهم الجوانب الإيجابية لتلك التطورات المختلفة هو العودة ل ” الوسائل البديلة لحل الخلافات قبل القضاء” والأكثر انتشاراً وقبولاً – بأسلوب علمي ومنطقي وشرعي وقانوني ، فرضته الظروف ، وأوجبه الواقع ، وتستدعيه التطورات والتقلبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمحافظة على البقاء جنباً إلى جنب مع الآخرين – مثل :
1 – التفاوض : وهو عملية نقاش مباشر بين أطراف النزاع دون وجود أي طرف خارجي .
2 – الصلح (الوساطة) : عملية تدخل وسيط بين أطراف النزاع .
3 – التقييم الحيادي المبكر : عملية مشتركة بين الاستشارة والوساطة المبكرة .
4 – التوفيق : هو عملية تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة .
5 – التحكيم الاقتصادي أو الهندسي أو الفني : هو عملية اختيار أطراف النزاع لطرف آخر يحكم بينهم في ذلك النزاع .
6 – التحكيم المفوض .

أما أهم الجوانب السلبية الناتجة عن هذه التطورات فهو كثرة المنازعات ، واختلاف أنواعها وأشكالها ، وظروفها وحالاتها ، مما عرقل عمل القضاة ، وأجل الفصل لسنوات عديدة فيها ، فازدادت البغضاء ، وعمت الشحناء ، وهُجرت رؤوس الأموال .
يتم اللجوء لإحدى تلك الوسائل نتيجة لخلاف أو نزاع نشأ أو قد ينشأ بين الأطراف يستوجب معه ضرورة وجود من يستملك السلطة لحسم هذا الخلاف وفصل النزاع .
لذا ؛ علينا أن نستعد ونعد أنفسنا لاستقبال ما ستلده الأيام أو السنوات القادمة بعصر العلم ، وعالم العولمة ، وقواعد عدم مساواة إلا بقوة العلم وسلاح المعرفة ، وفلسفة الحجة ، وأن ندرب أنفسنا وجيلنا الحالي ليكون أهلاً لتحمل المسؤولية ، وأقدر على التعايش مع عالم العولمة ، ونشر ثقافة البحث والتعلم ، وتدعيم ” إتقان ثقافة الوسائل البديلة لحل الخلافات قبل القضاء” في الكثير من الأمور للوصول للحلول العلمية والعملية القابلة للتطبيق بالطرق الصحيحة ، وليس بأسلوب لوي الذراع أو مبدأ القوة ، وقانون الغابة .
في لمحة سريعة للإحصائيات البيانية الصادرة عن وزارة العدل السعودية والتي نُمثلها بتلك الرسومات ، يتضح لنا منها الكم الهائل لحجم القضايا المنظورة أمام المحاكم الشرعية فقط خلال الأعوام 22- 1425هـ في المملكة ، ونسبة عدد القضايا الحقوقية التي يمكن لهذه الوسائل البديلة من حلها – لمن أراد ، وما أكثرهم – والنسبة الكبيرة للقضايا الحقوقية التي لم تنظر بعد ، وتليها المنقوضة ، وما يترتب على ذلك من أضرار عديدة وجسيمة للمتنازعين ، مع زيادة الأعباء القضائية والتي لا يمكن التغلب عليها بزيادة عدد القضاة فقط كما يعتقد البعض ، لأن القاضي الجديد في أمس الحاجة لسنوات عديدة من التدريب مع قاض سابق لاكتساب الخبرة والمرونة قبل أن يُعهد إليه بممارسة القضاء والنظر في النزاعات والقضايا المختلفة ، وهو للأسف غير مطبق في كثير من المواقع ، مما أبرز نوعاً آخر من المشاكل وترك خلفيات سلبية عديدة ، حيث أن متوسط ما يجب على كل قاض أن ينجزه كقضية كاملة من القضايا المختلفة المعروضة عليه ويصدر فيها حكمه النهائي خلال نصف ساعة (30دقيقة) من كل يوم عمل ، وهذا طبعاً من المستحيلات ، فكانت النتيجة ما يحدث .
لذا يجب إفساح المجال أمام القضاة للنظر في القضايا الأهم والأصعب ، وإعطاءهم مزيداً من الوقت لدراستها بشكل أفضل وإصدار الأحكام الشرعية السليمة فيها بدلا من بذل الوقت والجهد فيها، ثم عودتها من التمييز بعدم التصديق ، وبالتالي تبدأ من الصفر مرة أخرى ، بينما كان بالإمكان حلها ب ” الوسائل البديلة ” لمن أراد ، وتوفير الكثير .
أما حجم القضايا الحقوقية المنظورة أما ديوان المظالم فلم نتمكن من الحصول على معلومات موثقة عنها رغم ندبي كخبير من قبل الديوان لإعداد بعض التقارير الفنية لبعض منها ، وأحد المحكمين والخبراء المعتمدين بوزارة العدل والجهات الدولية .

تفاصيل كثيرة ذكرت في مصنف ” الوسائل البديلة لحل الخلافات قبل القضاء ” لأكثر الوسائل انتشاراً ، وأقربها للقبول والتطبيق ، مع بعض التوسع في باب التحكيم ، والتحكيم المفوض بشكل عام، وطرق الاختيار وغيرها ، والإشارة لأنظمة وقوانين التحكيم وطرق الإجراءات والخطوات الواجب إتباعها لكل منهم بحسب الحالة والظروف ، وكلها جائزة فيما أجازه الشرع الحنيف ، ابتداء من الأمور الخاصة والشخصية الأسرية وحتى الأمور التعاقدية التجارية بكافة أنواعها ، والعقارية ، والزراعية ، والهندسية ، والفنية وغيرها.
تعتبر” موسوعة القضاء والتحكيم ” إحدى الموسوعات النادرة في المكتبة العربية والمتخصصة في هذا المجال بشيء من الدقة والتفاصيل ، وهي متوفرة للبيع لدى المكتبات أو المؤلف مباشرة ، ومرفق نشرة لما صدر من مجلداتها .
نرى أن نحرص على المزيد من الاستعداد لبناء جيل جديد متفهم لمعنى الوسائل البديلة ، وقادر على مواكبة التطورات الحضارية ، ومسايرة الأوضاع الاقتصادية الحالية والمستقبلية ، وفاهم حقيقة معنى العولمة وما ستفرضه علينا إن لم نتدارك الأمر ، وأن تتبني الهيئة السعودية للمهندسين وضع خطة تدريب منتظمة ومنظمة ( لكورسات) لدورات في ” الوسائل البديلة لحل الخلافات قبل القضاء ” ، وليست ندوات ومنتديات متقطعة وغير متسلسلة المعلومات كما يحدث حالياً ، وأن يتم التعاون مع بقية الجمعيات المهنية الأخرى ، خاصة مع توفر عدد جيد ممن أصبحوا ذا باع طويل من المواطنين المتخصصين والفنيين في هذا المجال ، ولا يمنع من الاستفادة من خبرة الإخوة العرب وغيرهم في هذا المجال ، والتنسيق مع الجامعات لتدريسها كمادة مستقلة للراغبين في الكليات وفق منهج دراسي متكامل سليم ، وألا تقل درجة التحصيل في كل جزء منه عن جيد مرتفع ليتمكن الدارس من مواصلة المرحلة التي تليه وهكذا ، وتنظيم تدريبهم مع الممارسين في هذا المجال لفترة تختلف بحسب التخصص قبل أن يسمح له بممارسة التحكيم منفرداً ، والمجال مفتوح لمزيد من المقترحات البناءة .

نُشر بتاريخ سبتمبر 1, 2009