إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة “الانتماء”

للحارات والأحياء القديمة في مكة المكرمة طبقاً لما عشناه مع أجدادنا، أصول وقواعد عديدة يعرفها معظم الناس في ذلك الزمان، ويرعى تطبيقها كبار الشخصيات وعمد المحلات، لكل منهم دور فاعل في المجتمع الحجازي القديم، وقد يشتركوا في بعض الأمور. أهم شيء ألا يكون هناك خصام أو تخاصم بين السكان ولا بين الحارات، وأي خلاف قد ينشأ لا يصل للجهات الحكومية بل يفصِله عمدة المحلة أو كبار الشخصيات بالحي حتى وإن تطلب الأمر تحمل أعباء مالية.  

       الحمد لله- نجحت في اصدار كتاب “رجل المهمات الصعبة” بعد جهود مضنية، كنت خلالها أدون بعضاً من ترجمتي المصاحبة لترجمة العديد من العلماء والفقهاء والشخصيات التي عاصرتها وتعلمت منها الكثير، وذكرت الحارات التي تنقلت فيها.

       حاولت مراراً منذ عام 1400هـ، القيام بعمل مجسم مصغر للمسجد الحرام قبل عام 1375هـ، ذكرى للأجيال القادمة وحفاظاً على التاريخ الجميل الذي نعتز به، واشتريت عدة قطع وأدوات يدوية من المعارض الأجنبية الدولية التي كنت أزورها، أو أُدعى لها خارج المملكة حتى أصبح لدي أدوات كثيرة ومتنوعة تسهل على ذلك.

بدأت في وضع الفكرة العامة على ورق وكتبت الخطوات المطلوبة وبدأت العمل التنفيذي التدريجي بحسب أوقات الفراغ، لكن كثرة المسؤولية عن أعمال والدي -يرحم الله- التي أناطها بي لم تعطني الفرصة الكافية لتنفيذ كامل الفكرة.

تمت إزالة تلك الأماكن التاريخية العتيقة ولم يعد منها إلا الذكرى الجميلة عند عاشقيها وما بقي في الذاكرة مع الحسرة والندامة على فقدان أصولها دون أن تؤخذ لها صور واقعية متكاملة ومعلومات من الطبيعة، وتدوينها وتوثيقها.

نشأت مجموعة متطوعة بجهود فردية ومضنية لجمع معلومات عن سكان الحارات والأحياء التي تمت إزالتها من حول الحرم (المجموعة الأولى) والثانية لرصد وتوقيع مواقع ومحتويات تلك الحارات والأحياء على كروكيات ومخططات جوية لذلك الزمان، ولبيت شاكراً دعوة الانضمام لهما. تعرفت على الكثير من الإخوة والأخوات الأفاضل، منهم من لا يزال يقيم فيها بقلبه وعقله وجوارحه، ومنهم من ترك قلبه فيها ورحل بجسده لسواها سعياً للمعيشة ومتطلباتها. عمل جميل وجهد موفق وفعل مشكور، يتعاون في تنفيذه فرق متعددة، تحت راية المحبة ومبدأ الإخلاص وقاعدة الانتماء.

الحمد لله الذي حقق رجائي، فقد ناديت بهذا كثيراً ودونته في مقدمة كتابي “رجل المهمات الصعبة“، وبقي أن تتم بقية أمنياتي تلك، بعمل شريط سينمائي رائع، ومجسم كبير معبر ومتميز بكامل المعلومات والإرشادات، وعمل معرض متكامل للصور، ومتحف متكامل ليتحقق بقية الحلم، وعمل حي أنموذجي استثماري متكامل بجميع الخدمات والمتطلبات وسمته ب “الحي النموذجي للحارات والأحياء القديمة بمكة المكرمة” مماثل لما كانت عليه تلك المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، وعمل المتحف والمكتبة المكية[1] في محيطه، وأن يكون خارج منطقة الحرم حتى يمكن لغير المسلمين من زيارته، وفتحه للزيارة والسياحة برسوم، ويصبح الكلام واقع، والخيال حقيقة. أتمنى أن أرى هذا قريباً.

لا أعرف كيف تكون عملية الانتماء للحارة! بسكن الوالد فيها! أم بالولادة فيها! أم بسنوات معيشة الشخص أم الأسرة فيها! وكيف يمكن تحديد تلك الفترة الزمنية! أم بقواعد أخرى لا أعرفها! ولأيهم تكون الأولوية إذا تنقل المرؤ لعدة حارات، راغباً أو مكرها! وما هي المبررات أو الأسباب لتحديد ذلك!

 لذلك تعذر عَلَيَ تحديد الحارة التي قد أنتمي لها، لأنني ولدت في حارة، ونشأت في أخرى، وعشت في ثالثة، وانتقلت لرابعة وخامسة.

طرحت هذه المداخلة عن (الانتماء للحارة أو الحي) على المجموعة الأولى لداستها وتحليلها بعد الرجوع للقواعد المتخذة من قبل أسلافنا، والاتفاق على أسس وقواعد عامة يمكن تطبيقها دون تأثير سلبي مؤثر. يبدو أن الأمر لا يزال قيد الدراسة حتى تاريخ هذا النشر. وآمل مِنْ مَنْ يستطيع المساهمة في هذه الدراسة أن يدلي بدلوه لوضع تلك القواعد.

كذلك طرحت فكرة توحيد ترقيم الحارات بحسب الأولوية أو المكانة التاريخية لها مع ذكر أسباب المسميات، وتوزيعها على أساس مسمياتها وتقسيمها قبل عملية أول توسعة في العهد السعودي، لأنها تحكي الواقع الملموس والمحسوس في ذلك الزمان، وليس على أساس الوضع الحالي كما يرى البعض، لوجود اختلاف كبير بين الحالتين، يختلف عن الهدف المنشود، ويبدو أن الأمر لا يزال قيد الدراسة حتى تاريخ هذا النشر.

كما طرحت فكرة وضع تلك الأرقام على مخطط جوي عام وموحد يضمن تلك الحارات والأحياء ويكون المرجع الرئيسي لجميعها في أي معلومة أو موضوع. ويبدو أن الأمر لا يزال أيضاً قيد البحث والدراسة حتى تاريخ هذا النشر. وآمل من المجموعة المسؤولة عن تحقيق ذلك أن تسارع في خطواتها كسباً للزمن، وتحقيقاً للأهداف السامية المنشودة من ذلك.

لن أتخلى عن ثقتي بكم، ويقيني بأنكم ستصلون للرؤيا المنشودة، وسيتم بإذن الله تعالى تدشين توثيق ما جمعتموه من معلومات وتوقيها على المخططات، فسابقوا الزمن قبل أن يرحل عنكم، وخلفوا لأجيالكم قدوة حسنة، وذكرى خالدة، وتاريخاً عريقاً مجيداً.   

أكرر جزيل شكري للمجموعتين وجميع فرعهما، ولكل من يساهم في تحقيق الأهداف السامية المنشودة في محبة مكة المكرمة بلد الله الحرام، ومولد رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم، ومحبة وطننا الغالي.


[1] المكتبة المكية بينت تفاصيلها في همسات سابقة همسة ل “عشاق مكة المكرمة، طلب انقاذ” موجودة في الموقع بند (همسات)

همسة “النسب”

تطورت مسيرة الحياة، واختلط الحابل بالنابل، واتسعت وسائل التواصل الاجتماعي كثيراً، وشارك فيها العديد من الجنسين على اختلاف معلوماتهم وثقافاتهم ومفاهيمهم. أضاع البعض منهم اللغة العربية، وحَرَف الكلمات بعض آخر، أو كتب بأسلوب غير لائقٍ، وآخرون منهم انطلقوا دون ضوابط.

أناس حرفوا أسمائهم، أو استعاروا أسماء أو كنية لهم، وأناس استخدموا علامات أو حركات معينة من الحركات المنتشرة على مواقع التواصل، أو الاكتفاء برقم هاتفه واختباءه خلفه.

فهل يا ترى! هناك من أسباب أو مبررات منطقية لهذا التخفي! أو الاختباء خلف شعار! أو شكل! أو رمز!! يمكن الاستفادة منها!! أم أنه مجرد تقليد شكلي للمستورد!!  

نعرف نسل النبي صلى الله عليه وسلم، ونتشرف به، ونعرف أسماء زوجاته وبناته وأبناءه رضي الله عنهم أجمعين، ونعرف أسماء المهاجرين والمهاجرات والشهداء والشهيدات وبعضٍ من الأنصار، والعديد من الصحابة ذكوراً وإناثا، ونعرف أسماء الكثير من الرجال الأفاضل والسيدات الجليلات على مر التاريخ، كلها مدونة ومتداولة دون أن يُنْقِصَ أو يمس ذلك من أيٍ منهم شيء سيئ.

يقول الله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} الآية (5) الأحزاب، وقال سبحانه وتعالى في آية التحريم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) الآية (23) سورة النساء.

هذه بعض الأدلة الشرعية والأمثلة على ضرورة الانتساب وعدم الغموض.  

إذن، إخفاء الاسم أو النسب شيء منبوذ لا يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ولا السنة النبوية. فالمرؤ إما أن ينتسب وفقاً للمبادئ الشرعية، وإما أن يحجب نفسه إذا كان ذلك الأنسب له، خيراً له من أن يخالف المبادئ الشرعية والسنة النبوية، ويسلك طرق غير صحيحة خلف التطورات المزعومة والمعلومات الغثة والثقافة السطحية أو الهشة. 

       أتمنى أن نراجع أنفسنا، ونصحح أحوالنا ونعود للصواب قبل فوات الأوان.

       نسأل الله الهداية والرشد، والتمسك بالمبادئ الشرعية والسنة النبوية، والبعد عن كل ما يخالفهما، أو يخرج عنهما، فهو ولينا ونعم الوكيل.

همسة استثمارية أزلية

القدرات البشرية المختلفة بكل وطن أو دولة هي الثروة الحقيقية والأساسية التي تستطيع تحقيق ذلك النمو في شتى المجالات، والتطور في مختلف التخصصات.

أما الثروات الطبيعية والإرث المادي فما هي إلا وسيلة لتحقيق الأهداف ونيل الطموحات والوصول للعالمية.

لذلك، توجهت الدولة بقوة فاعلة لتنمية المجتمع ومواكبة النمو الحضاري، فتم توسيع نشر الخدمات الأساسية التي كانت موجودة في منطقة الحجاز كالتعليم والصحة والبلديات والأمن في المدن، وتلاها نشر التعليم المجاني النظامي في المدارس والمعاهد في بقية مناطق المملكة، فالاتصالات والطرق والصناعة والزراعة، وتشجيع القطاع الخاص للنهوض والمشاركة في بناء الوطن حتى أضحى يشار له بالبنان.

توالت التطورات لتواكب منهج مسيرة التنمية المستدامة، فأخذت تهتم بمجال التنمية الاجتماعية والمجتمعية ومحاولة تحسين الرفاهية في المجتمع بعد تطبيق الأنظمة الضريبية وتغيير بعض مواد وفقرات بعض الأنظمة المدنية والأمنية والاقتصادية، وتتوسع في جميع المجالات والنشاطات الإنسانية والفكرية والتكنولوجية والاقتصادية، وفتحت أبواب الأنشطة الثقافية التي كانت مغلقة كالاحتفالات المحلية والدولية والمسارح والسينما والمناسبات الوطنية وغيرها، وتقوم بتقديم الدعم المادي والمعنوي لبعض منها.   

الأجيال السابقة أدت أدواراً جبارةً تشكر عليها، وقامت بمجهودات عظيمة رغم صعوبة الحياة التي كانوا يعيشونها، جعلها الله في ميزان حسناتها.

من أجل وأهم هذه الأدوار التي أَدَوها، هو تنشئة جيل قوي بالإيمان، فيه العالم والمتعلم وطالب العلم، فيه الباحث والمجتهد والعامل والزارع، فيه العديد من الصفات الحسنة والقدوة الصالحة، ولا يخلو من الشواذ.

لقد آن الأوان لهذا الجيل المعاصر بأن يأخذ بقيادة الدفة، وإدارة العجلة بمزيد من الحكمة حتى لا تخرج عن المنهج الإسلامي العام، ويركب قطار مسيرة التنمية المستدامة ويتجاوز العالمية، ويتغلب على كل الأفكار الهدامة، والمؤثرات السلبية التي تتسلل بلا هوادة ودون استئذان للبيوت والعقول والقلوب، وأن يتمكن أفراده من حسن اختيار الثمين ونبذ الغث الدفين، والحرص على المزيد من التعلم وحسن الفهم، وتنمية الروح الوطنية، ومواصلة نشر المزيد من عناصر المحبة والسلامة بين أفراد المجتمع.

إن أهم وأعظم مقومات هذه البلاد، هي المقومات الروحية المتمثلة في العناية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، وبالشرف العظيم لخدمة ضيوف الرحمن، واللذين يعدَّان رصيداً أزلياً وكنزًا عظيمًا لا مثيل له، وله مكانة عالية في الدنيا، وتأثيرات فاعلة على جميع المستويات.

إذن، بناء الإنسان هو العنصر الأساسي في هذه الحياة، ولابد أن يكون قبل بناء المكان، فالإنسان هو الذي يمكنه بناء كل شيء -بقدرة الله تعالى-

لذلك، يهتم الإنسان النشيط بالعمل المناط به، والقليل مَن يحرص على تطوير إمكانياته وتحسين مستواه المادي والعلمي، والكثير من الناس لا يحب المجازفة ولا التعرض للمخاطر على اختلاف أنواعها ومستوياتها بالنسبة لمجال عمله ومسيرة حياته ويقبل بالواقع.

القليل من الأفراد الطموحين من يحب المغامرات والدخول في المنعطفات، والصعود لقمم الجبال بإرادة قوية وعزيمة صادقة متخطياً كل الاحتمالات مع أخذ الحذر والحيطة وتجنب الهَوْيَاتْ، بعد دراسة متأنية وتفكير عميق، يَجِد ويَجْتَهِد، يزداد علماً، ويتوسع تعليماً، ويستدرك فهماً، ويستنير معرفة، ويتطور فكريراً، ويتنور تفكيراً، مستثمراً في نفسه وفي علمه ومعلوماته وأعماله ومجتمعه، فيسهل عليه المساهمة في تطوير أسرته ومجتمعه ووطنه ومواكبة مسيرة الحياة والرفاهية المعتدلة، وهذا من أَجَلُّ وأفضلُ أنواع الاستثمار. 

فإن أردت يا أخي الكريم أن تبني أو تستثمر شيئاً قوياً يسري مفعوله، ويخلد أثره، ويجري أجره بلا انقطاع، فاستثمر في بناء ابنك وابنتك (وَرَثتك في الدنيا، ورصيدك للآخرة) بقوة العقيدة، وفهم العلم، والقناعة والرضا، وحب التعلم، والقدوة الحسنة، والقدرة على الحب والمحبة والتسامح وحسن التعامل مع الآخر، وصم الآذان عن النميمة، والبعد عن الغرور، وتجنب زارعي الفتن، ومروجي الأكاذيب.

لا تَبْنِ لهم بيوتاً دنيوية، ولا شركات وأرصدة بنكية يتنازعون عليها ويتخاصمون ويتفَرَقون بسببها بعد وفاتك.

هذا لا يعني أن تتركهم فقراء يتكففون الناس، بل ضع الأساس القوي، وكن حريصاً على الاستثمار الأمثل، تحصدهما معاً، والهداية من -الله سبحانه وتعالى.

إن من يستطع فعل ذلك الاستثمار الأمثل، يكون قد حقق الكثير للدنيا والآخرة، لأنك بذلك الرصيد الثمين الذي زَوَدْتَهُم به في حياتك، يستطيعون بناء السعادة، ونيل الطموح، وبقاء الأخوة، ونشر المحبة، والمحافظة على المودة، وحفظ الإرث أيا كان، وتطبيق ما فعلته معهم على ذرياتهم.

فاحرص يا أخي على الفوز بالاستثمار الأزلي قبل فوات الأوان، فلا تلهيك المنعطفات المزينة، ولا تتعثر في المطبات المتكررة، وتنبه قبل السقوط في فجواتها وحفرها المتنوعة.

لا تنساني من الدعاء. وفقنا الله جميعاً لما يحبه ويرضاه.               اللهم آمين

همسة “زمان”

حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، يشهد له رب العالمين في قوله تعالى {وإنك لعلا خلق عظيم} الآية (4) القلم.

علم أسلافنا أشياء لا حصر لها، توارثوها أجيالاً متتالية يعلمونها لأبنائهم منذ الطفولة حتى ينشؤوا على المبادئ القيمة والقيم الحميدة والأخلاق الفاضلة، ولا يزال الكثير منا يطبقها عن حب وقناعة، منها حسن الخلق، وحُلْوَ التعبير، وبشاشة الوجه، وابتسامة القلب، ونشر السلام في كل مكان، والتسامح وتبادل المحبة، والمشاركة الوجدانية في السراء والضراء، والتأدب في الكلام، وتقدير الكبير واحترام القرين، والعطف على الصغير واحترام الرأي الآخر، وغيرها.

توارثناها أجيالاً متتالية أبناءً وأحفادا، فأصبحت لنا سمة جميلة ومبادئ قيمة، وقيم عظيمة، ولا تخلو أي قاعدة من الشواذ.

تعلمنا بالمحبة والحنان، بالأدب والاحترام، بالتآخي والتعاون المنتشر في غالبية المجتمع الحجازي القديم في ذلك الزمان.

لم يكن العقاب للانتقام، بل كان نوعاً من البيان، والحرص على معرفة الصواب وعدم تكرار الأخطاء، ولا أخاله إلا كذلك لمعظم السكان رغم مرور الأيام، واختلاف الأجيال والزمان، ولا يخلو من الشواذ.

هذا المجتمع الذي كنت أعيش فيه، وهذه البيئة التي نشأنا فيها، وهذه بعض من التقاليد الحسنة، والعادات المستحسنة، والمفاهيم الجميلة التي كانت ديدن الغالبية من طبقات أفراد ذلك المجمع الحجازي القديم على اختلاف جنسياته ولغاته وعاداته وتقاليده التي انصهرت في بوتقة واحدة، وأبرزت حياة المحبة المشتركة.

نشأت خلال تلك الأيام الخوالي بكل ما كان فيها من ذكريات جميلة، ومجتمع متكاتف، وحياة طبيعية. تعلمت الكثير من أجدادي ووالديَّ وأحبابهم وجيرانهم وأساتذتي وغيرهم، ولا أزال أحب أن أتعلم المزيد بنفس راضية وقناعة تامة.

الحمد لله- أحرص على تعليم تلك المبادئ والقيم لأبنائي ونقلها لأحفادي، وأتمنى أن نظل نحافظ على هذا الإرث الطاهر مهما واجهتنا الصعاب، أو قاومتنا وسائل التحضر الزائفة، أو عارضنا أعوانها، وأن يعود المبتعدون عنها إليها ليستطعموا لذة الحياة الحقيقية، ويحافظوا على متعة الآخرة، فزيف الحياة زائل مهما أحيط به من أنواع الزهور، أو فُرِشت أرضه بالورود.

ما أكتبه عن ذلك المجتمع الذي عشت في جزء منه، وتعايشت مع القليل منه بقدر ما تسمح بتدوينه الظروف، أُوثِقَه بصدق وأمانة -وأجزم بأن هناك الكثير مما نسيته، أو يعرفه غيري ولم يُدَوَّنْ- ما هو إلا جزء ضئيل من حقوقهم علينا، وقليل من ما يستحقونه من شكرنا لهم على ما بذلوه لنا وما ضحوا به من أجلنا.

أما ما يمكن توثيقه ولم يوثق، فأعتبره قصور منا وتقصير من بعضنا في حق أسلافنا والتاريخ القديم، والأجيال القادمة.

حبذا لو نستدرك ما فاتنا، ونصحح أخطاءنا، ونعود لوعينا، ونكف عن النواح، نفكر بعقولنا، ونُحلل بمنهجية شريعتنا، ونجمع بين العقل والمنطق والقلب قبل إصدار أحكامنا، ونتجاهل كل الدعايات الواهية، والأكاذيب المضللة، ونقيم كل المستجدات قبل أن نكون جزءً منها.    

ليس هذا التدوين بهدف الذم أو النقمة على عصر التكنولوجيا وأجياله، رغم كثرة سلبياته، وقلة الحيلة أمام تنوع مغرياته، وصعوبة التغلب على الكثير من عقباته، وإنما هو تذكيرٌ لبعضٍ من القيم والمبادئ العامة التي نتعلمها من أسلافنا، وننشأ عليها منذ الطفولة، نمارسها في حياتنا العامة والخاصة، نتوارثها أجيالاً متتالية، ونبذل قصارى جهدنا لتستمر، ولا يمنع ذلك من إضافة كل جديد حسن ومفيد لا يخل بأي حال من بنود المنهج الشرعي العام ليواكب الزمان والمكان، ويحق الأهداف المنشودة بصدق وأمان.

كم أتمنى أن نزداد ترابطاً وتطوراً لنواكب التطورات الزمانية والمكانية بما لا يُخِلُّ بالقواعد الرئيسية.

قد يذكرنا هذا التدوين أيضاً بالدعاء لأسلافنا على ما بذلوه من جهود مضنية، وحياة صعبة عاشوها لنتنعم بما نحن فيه في هذا العصر العجيب في كل شيء.

فشاركوني الدعاء لهم حتى نكسب الأجر معاً، ونحظى بالرضا من رب العالمين.

اللهم ارحمهم أجمعين، وارحمنا أحياً وأمواتا، وارزقنا الذرية الصالحة إلى يوم القيامة، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين والآل والصحب أجمعين.    اللهم آمين.

همسة “الصلاح” 

أعمال الخير لا تحصى ولا تعد، وسًعَها الله سبحانه وتعالى لعباده ليحصد كل منهم بقدر ما يستطيع، فيكون الأكثر فوزاً بنعيم الجنان، أقلها إماطة الأذى عن الطريق. من مراتبها العالية “بر الوالدين في طاعة الله سبحانه وتعالى”

سأل رجل أحد العلماء قائلاً “هل أنا من الصالحين”!

فأجابه العالم {إن كنت تدعو لوالديك فأنت منهم، لحديثٍ لرسول الله ﷺ يقول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} رواه مسلم. فإن كنت تنسى والديك، فلست منهم بقدر نسيانك لهم}.

وتذكروا معي قول الله تعالى ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. (الآية 24) سورة الإسراء.

الدعاء لهما وبرهما أحياءً وأمواتا فرصة ثمينة، والسعيد من يفوز بها، خاصة في شهر رمضان المبارك والأشهر الحُرُمْ، نتذكرهم بالدعاء ونحرص على رضاهم أحياءً، ونزورهم في القبور إن كانوا من أصحابها وندعو لهم، ولا ننقطع عن ذلك بقدر الإمكان، امتثلاً لأمر الله تعالى وتلبية لتوجيهاته ﷺ [كُنْتُ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها] رواه مسلم.

شكراً لله سبحانه وتعالى، وتقرباً إليه، وبراً بهما في الدارين.

نسأل الله باسمه الأعظم وكرمه وفضله أن يجمعنا بهما على الحوض، وأن نكون بصحبته ﷺ لرؤية ذا الجلال والإكرام.

اللهم آمين عليه أفضل الصلاة والسلام. 

همسة “التواضع”

هذا درس عملي فريد، فبالرغم مما يحظى به والدي حسين جستنيه -يرحمه الله- من مكانة رفيعة في المجتمع ومنزلة عالية لدي الكثير من رجال الدولة، إلى جانب منصبه كمدير عام لوزارة المالية التي كانت الوزارة الوحيدة في الدولة آنذاك، ولديه صلاحية التوقيع عن وزير المالية الشيخ عبد الله السليمان الوزير الأوحد في الدولة، إلا أنه كان يتمتع بنسبة عالية جداً من التواضع وكرم النفس.

كان يقوم بنفسه -يرحمه الله- بتأمين كل متطلباتنا ومتطلبات المنزل رغم وجود من يمكنه القيام بذلك من العاملين عندنا. أخذني معه ذات مرة للمنشية التي تحت عمارة المفتي تقاطع زقاق الحجر مع زقاق الصوغ بمكة المكرمة، لأتعلم كيف أقضي أو أشتري احتياجات البيت اليومية من متطلبات الطعام كاللحمة والخضار والفواكه والبقدونس والكزبرة والفلفل الأخضر الحار والليمون وبقية الأشياء.

كان عندنا عم يوسف دلول الفلسطيني يسوق السيارة. وصلنا سوق الليل عند السبعة آبار أمام الزقاق الواصل بين سوق الليل وامتداد زقاق الصوغ النافذ لشارع المدعى قبل مقراة الفاتحة ونزلنا من السيارة وأخرج عم يوسف الزنبيل الخصف[1] الذي كان يُسْتَخْدَمْ في ذلك الزمان لوضع المشتريات فيه. تناول الوالد الزنبيل من عم يوسف وسار به أمامي متجهاً للمنشية بينما عاد عم يوسف للسيارة لإيقافها في مكان جيد ويعود ليحمل الزنبيل عن والدي تأدباً منه بعد إلحاح شديد منه على الوالد.

هذا الزقاق يقع على جانبيه محلات تجارية مختلفة البضائع وجميع من بها يعرف الوالد، يطرح على كل منهم السلام وينزل بعضهم من دكانه للسلام ومصافحته والاطمئنان على صحته.

المفاجأة التي لم أكن أتوقعها أو أفهم معناها آنذاك، أن كل شخص من أصحاب هذه المحلات كان يحاول أخذ الزنبيل من الوالد وحمله نيابة عنه تقديراً لمكانته ورغبة في خدمته وتعجباً لتواضعه، لكنه يشكرهم ويعتذر منهم ولم يعطه لأحدهم رغم كل المحاولات حتى أن بعضاً منهم طلب من الوالد أن يرافقه ابنه ويحمل الزنبيل بدلاً عنه، إلا أنه لم يوافق ويتشكر منهم ويدعو لهم وهم في غاية السرور، كل منهم يتمنى أن يحظى بالموافقة على حمل الزنبيل الذي كنت أشاهد ما يحدث وأسمع ما يدور من حديث دون أن أحرك ساكناً. كنت صغير السن قليل الخبرة، معتزاً بنفسي ومتفاخراً بمكانة والدي ووضعنا العائلي، فكنت أستعلي نفسي على حمل الزنبيل والتنقل به بين المحلات التجارية لشراء الاحتياجات، لم أتعلم بعد من هؤلاء الناس.

تجولنا في المنشية والمشهد يتكرر وكل رجل منهم يصر أو يحلف طالباً من الوالد أن يسمح له أو لابنه بحمل الزنبيل نيابة عنه في حين أسير بجوار والدي ولا أحاول مثلهم أو على الأقل أكون الأولى بذلك، لكن مشهد تجمع ثلاثة أشخاص بأبنائهم الذين يكبرونني سناً وإصراهم على طلب السماح لأبنائهم على الأقل بحمل الزنبيل عن والدي ووصول عم يوسف الذي بادرهم بقولة، أنا أحق بذلك، نزع الأنفة التي كانت عندي فمددت يدى آخذ الزنبيل من يد والدي الذي تبسم وتركه قائلاً “لقد حل الموضوع إبراهيم شكراً لكم وجزاكم الله خيراً” نظر الجميع إلي في صمت وتعجب، لم أفهم معناه آنذاك ولم أدرك مقصده إلا بعد حين.

لم يحاول الوالد يرحمه الله أن يفرض علي حمل الزنبيل، أو يأمرني بحمله، ولم يسع لنهري أو تأنيبي للتقاعس عن حمله، بل جعل من تواضعه ومحبة الناس له موقفاً تاريخياً لن أنساه مدى الحياة، ومنهجاً تربوياً عظيماً لا أعتقد أنه موجود في عصر الحضارة والتكنولوجيا، وتدريبياً عملياً على التواضع والمحبة والتوقير بعيداً عن الأنفة أو التكبر والغرور.

منذ ذلك اليوم وأنا في المرحلة المتوسطة من تعليمي، بدأت مرحلة جديدة في حياتي العملية، وأخذت في تطوير أفكاري وتنمية مداركي، وتحسين طريقة تحليلي لمعاني الأحداث، وفهمي لواقع الحياة، أخذت تتطور مع كل درس جديد أتعلمه بأسلوب الترغيب والتهذيب والمشاعر الأبوية، وليس بنظام القوة والعصبية والأمر الواقع، ولا أزال أسعى لأن أكون كل يوم أفضل من اليوم السابق.

أوردت ما تذكرته من هذه الدروس والحكم والقيم في عدة مناسبات مع وبين شخصياتها، بين طيات مجلدات “مجموعة التراجم التحليلية التداخلية المشتركة” التي أقوم بمراجعة بعض أجزائها تمهيدها لفسحها للنشر، راجياً أن يستفيد منها الآخرون فأحظى بأجرين، ونتذكر معاً أسلافنا -يرحمهم الله جميعاً- فندعو لهم، وأكسب بذلك أجرين آخران.

ولنتذكر معاً شيئاً من آداب القرآن الكريم في قوله تعالى {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ*} الآية (18-19) سورة لقمان، وقوله تعالى {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} الآية (37) سورة الإسراء.


[1] الزنبيل الخصف مصنوع من شرائح زعف النخيل قبل أن يجف بطريقة الغزل التبادلي والعقدة بأحجام مختلفة على شكل شبه أسطواني مفتوح من أعلى وله يدين على شكل حرف U مغزولة أيضا في المحيط العلوي له أو من الحبل القوي ومدخلة مع نسيج غزل الزنبيل بالنسبة للحجم الكبير حتى لا ينقطع من وزن محتواه. الكبير منه يستخدمه الجزارة لوضع الأغنام بعد ذبحها وتنظيفها لنقلها من مكان لآخر.

همسة “ثقافية”

اختلفت وجهات النظر في التعريف لمعنى مفهوم الثقافة الفردية والاجتماعية والمجتمعية والجماعية، وهو شيء طبيعي في الكثير من الأمور.

       بشكل عام، هي جزء رئيسي من العمل السياسي والدبلوماسي، وخط الدفاع الداخلي الأول والأقوى، والجسر المجتمعي المترابط، والقاعدة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، والمنهج المجتمعي المتفرع لمسيرة الحياة في عمليات التشييد والبناء والتعاون، والطريق الآمن للتفاهم الجماعي للترويج والحوار بين الأفراد والشعوب والدول.

       قد تلتقي بعض معانيها في مواضع عدة لِتُقِيم قاعدة قوية في معرفة الآخر، والتعرف على قدراته ومدى استعداده وتحديد معالمه، وقد تساهم معانٍ أخرى منها في بناء العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والمجتمعية المشتركة، وقد تعكس نمط الحياة والمستوى التعليمي والبيئي، وقد تشكّل استراتيجية هامة في صناعة قرارات وتوجّهات الدولة.

       تختلف الثقافات، وتتعدد المنابع والعادات، وتتغير التقاليد والقيم التي تتعامل بها الشعوب والمثقفون بينهم ومع الآخرين بحسب مصادر ثقافاتهم ومستوى فهم كل منهم لها، فلكل مجتمع ملامح ثقافية عامة وخاصة مختلفة عن الآخر.

       هذه المتغيرات الثقافة لها تأثيرات كبيرة على كل أنواع التطورات في أي بلد تتسرب إليه تلك المتغيرات بسلبياتها إيجابياتها، ما لم يكن الغالبية منهم محصن بالوعي وحسن الإدراك، والتمسك بالهوية الوطنية، وفهم الأهداف من تسلل تلك المتغيرات وتلافي السلبيات واكتساب الإيجابيات وتطويرها.

       لذا، تكون الثقافة بمعانيها المتغيرة، ومفاهيمها المتعددة من أهم مشاريع تكوين المجتمع في أي دولة، فهي تحرص على تحصين شعبها من كل أنواع المتغيرات الغير ملائمة، لا سيما وأنّ التطورات التكنولوجية المتسارعة بشكل عجيب خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة تقريباً، قد ساهمت بقدر كبير في انهيار معظم السدود الوقائية، وأزاحت الكثير من الحواجز الدفاعية، وفتحت الحدود الزمانية، وأخفت المواقع المكانية، وادخلت البشرية في مغامرات معرفية عميقة وغير مسبوقة في التاريخ، فتدفقت سيول المعلومات الغثة والثمينة، الصالحة والطالحة، وهنا تظهر الحكمة في حسن التمييز واخيار المفيد. 

       هذه القفزة التكنولوجية الكبيرة في هذه الفترة الزمنية القصيرة مقارنة بسابقاتها، تدفعنا بقوة شديدة وسرعة عالية لضرورة مراجعة كل استراتيجياتنا السابقة والحالية وما يربطهما بتنشئة الأجيال المعاصرة والقادمة، لدمج ومواءمة الثقافة بكل معانيها ومفاهيمها وقيمها الحسنة بالتعليم والأخلاق الحميدة وحسن القدوة من خلال برامج منهجية تعليمية وتثقيفية لمختلف الأعمار، تشرح المعنى الحقيقي لمفهوم الحرية، وترتقي بالفكر، وتنير العقل، وتُنمي الوعي، وتقوي الشخصية، وتصحح السلوك المنحرف، وتكف عن الوصاية الغير شرعية، وتحافظ على العادات الحسنة، والتقاليد المحبذة، والقيم الفاضلة، لضمان حصانة الفرد والمجتمع من الانفتاح الغير محدود، والحرية الزائفة، والأفكار الهدامة.

       الثقافة ليست شعاراً يرفرف في الهواء، ولا كلمات سطحية تطلق في العراء، ولا شهادة ورقية خاوية المضمون، ولا نمط شكلي خالي من المفهوم، ولا هيكل مغرور بنفسه، أو يتباهي بكتابه أسماء ومراجع أجنبية ويتناسي ما قدمه أسلافه لينعم بما هو فيه.

       من وجهة نظري، عند التعريف الشامل للثقافة، أنها اعتراف بالشكر -لله سبحانه وتعالى- أولاً وآخراً، على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم للآخرين مهما قَلَ جميلهم أو تضاءل صنيعهم، ولكل من يُعًلِم أو يساهم في التعليم والتثقيف القويم على اختلاف مجالاته وتخصصاته.

       هي تواضع أخلاقي، وقراءة عميقة بفم، ودراسات مكثفة لما تقرأ، وتحليل دقيق لما تتعلمه منها، وعلم حقيقي، ومعلومات موثقة، وفهم تطبيقي، وإدراك بالعقل، وإحساس واقعي، وتركيز شديد فيما تراه وتسمعه، ودقة فيما تستوعبه بعقلك وتدركه بقلبك، وأحاسيس ملموسة، وحسن المعاملة والتعامل مع الآخر، بمشاعر تفاعلية، وأسلوب مهذب، وعبارات رنانة، وجُمَل بليغة، وكلمات عربية فصيحة.

       قد تثمر عنها الكتابة بإحساس رقيق، ومشاعر شفافة، ومزيج من الواقع والخيال البعيد التصور القريب التخيل، والتفاعل اللا شعوري بين المشاعر والأحاسيس، والتدوين بصدق وأمانة بكلمات عربية فصيحة، وعبارات طبيعية متسلسلة فياضة بعيدة عن التصنع والتزلق والتحيز.

       وقد تشمل القدرة على توصيل الفكرة للطرف الآخر على اختلاف المستويات الثقافية والتعليمية بأسلوب يتلاءم مع كل موقف، ويعكس المستوى الثقافي المجتمعي والجماعي.

       هي حصادٌ لمرحلةٍ متطورة جداً من العلم والمعلومات المتنوعة والخبرات الجيدة في مجالات متعددة، واجادة العادات الحسنة، والتمسك بالتقاليد المحبذة، وتطبيق القيم الرفيعة المتأصلة، والمنعوت بها يوسم ب “المثقف” 

       لست بالقارئ المطلع على الكثير من الثقافات المتنوعة، ولا بالمثقف الطليع في بحور العلم والمعلومات والثقافة، ولا بذاك الكاتب الذي لا يُكسر له قلم، ولا بالرامي الذي لا يخطئ له سهم، وإنما أنا طالب علم، أو باحث مبتدئ، أو كاتب غير محترف، أُبْحِرُ بين الحين والآخر في بحور العلم والمعرفة لأصطاد ما يقدره -الله سبحانه وتعالى- لي منها، قوتاً لعقلي وقلبي، وروحي وفكري، ومشاعري وأحاسيسي، أحاول تدوين شيءٍ مما ينضج منها خلال مسيرة حياتي، فقد يكون فيه ما يفيد غيري، فأنال الأجر والثواب المضاعف، وإن لم، فسأحصل على أجر الاجتهاد، وكرم الله سبحانه وتعالى أوسع من أن يحدد.

همسة “ذاك هو الإنسان”!!

في فصل الربيع، تزدهر الأشجار وتتفتح الزهور ويفوح عبقها فتنتعش النفس بعطرها، وتبتسم الروح بجمال ألوانها، وتعلو الشفاه ابتسامات عريضة لرؤيتها متفتحة.

كذلك حال الإنسان في ربيع عمره، تكثر عنده الأمنيات، وتتوالد لديه الطموحات، وتتوالى عليه المغامرات، ويتسع مجال خياله، وتكثر تخيلاته.

في شتاء عمره يخلد لشيء من الهدوء والسكينة، أو الاستجمام والراحة النفسية، وتبدأ مرحلة الطمأنينة، أو محاولة التركيز على القراءة والكتابة والتدوين إن كان من عشاقها، أو لإحدى الهوايات الأخرى التي يحبها، أو يفقد وقته أمام شاشة التليفزيون يتجول بين قنواته، أو يستسلم للزمن في حزن وألم في انتظار لحظة الرحيل، وهذا شيء مؤلم ومؤسف للغاية.

في خريف عمره تطفو عليه الذكريات وتتوالى التنهيدات، ويسرح الفكر في خيال التصورات. في بعض الحالات يستطيع الجمع بين الربيع والخريف والاستنباط من جمالهما جمالا خاصاً يواكب حالته، يتمتع به كلما طرق باب قلبه الحنين لتلك اللحظات الجميلة التي قضاها، وفاحت أزاهيرها بعبيق الشوق، وتوالت في ذاكرته لقطات من الأحداث المتنوعة، منها الجميل والممتع والمضحك، ومنها الحزين والبائس والمُبْكِي، ومنها الأليم والجارح، وغير ذلك مما يجري على الإنسان في معترك الحياة من متناقضات لا مناص منها.

هي أشياء طبيعية تجري في فصول عمر الإنسان، وتخيلات خيالية للغني والفقير، للذكر والأنثى، للكبير والصغير.

ذكريات متنوعة لا تلبث أن تراوح الفكر، أو تزور العقل، أو تظهر أمام العين الخيالية، يشاهدها أمام ناظريه، تعرض عليه نتيجةً لحدث مشابهه، أو كلمة عابرة تُذَكِرُه بها، أو شبيهة لها قالها أحدهم، تظهر من شريط سنيمائي تصوري خاص بين الحين والآخر والمرء يجلس في سكون تام، وتفاعل عجيب وكأنه يعيش إحدى تلك الأحداث.

فجأة تزول سحابة خياله، وينجلي ظلام ليليه، ويفوق من لحظات غفوته بتنهيدة عميقة، أو ذكر -سبحان الله- وقد تصاحبها ابتسامة عريضة، أو حركات لا شعورية، أو دمعة حزينة، أو أنين داخلي، حسب الموقف الذي كان سارحاً به خياله، أو استرجعه من ماضيه في تلك اللحظات.

يعود لوعيه ليجد نفسه في الحاضر بحاله، فيتحرك في مضض، ويتمتم في ضجر، وقد يكون العكس. يقوم من مكانه باحثاً عما يشغله عما كان سابحاً فيه.

تلك اللحظات التي قد تبدو له أحياناً ساعات وهي لحظات، وقد تصل لبضع دقائق، لها آثار دفينة في الأعماق، متعددة الإيجابيات، ومختلفة السلبيات، تَعَلَّقت ذِكرياتها في ذاكرته، وجال بها خياله لآفاق بعيدة، وحياة ماضية تنشر ظلالها على حاضره، وربما على مستقبله بين الحين والآخر.

ذاك هو الإنسان بشكل عام، عقل وقلب، إحساس ومشاعر، شعور واستشعار، سكينة وضجر، ألم وسعادة، ابتسامة وتقطيب حاجب.

كُنْ على يقين -بالله سبحانه وتعالى- وتأكد بأنك لن تأخذ من الحياة إلا ما كتبه -الله عز وجل- لك مهما فعلت، فاحرص على أن تكون قانعاً بقسمته، راضياً بقضائه وقدره، مصلياً على حبيبه عليه أفضل الصلاة والسلام، ودوداً متسامحاً، دائم الابتسامة في هذه الحياة، لتجد السعادة الحقيقية حتى وإن طال بك المطاف.

همسة خافته”

كل شخص يعبر عن مشاعره، أو يدون أحداثها بطريقة مختلفة عن الآخر، وأسلوب مختلف، قد يتوافق مع البعض، وقد يختلف مع البعض الآخر في وجهات النظر، وهذا شيء طبيعي في الحياة البشرية، ومن المفترض أنها لا تؤدي للخصام أو سوء التفاهم.

ما أدونه بين طياته، ما هو إلا نمط من ذلك، وجهة نظر، أو معلومات موثقة، أو تجارب علمية وخبرة عملية وتطبيقية، أو علم مَنَ -الله سبحانه وتعالى- به علي، وهي عذري من القارئ الذي قد يخالفني فيها، أو في بعضٍ مما يقرأه في مقالاتي، أو مطبوعاتي على اختلاف تخصصاتها، وتنوع مجالاتها.

المذكرات: هي الصفحات أو السجل الأبيض الذي تُدَون فيه الأحداث اليومية والمعلومات    العامة بلغة عامية وكلمات عادية، أو بلغة فصحى وعبارات متقنة الاختيار بحسب       قدرة المُدَون اللغوية والحسية، ومدى تفاعله الحسي فيما يدونه، والإحساسي        بالأحداث والمواقف، لتساهم في راحة الأعصاب، وتهْدِئة النفس، وتحفظ      المعلومات،        فلا تضيع الوقت دون أن تدون ولو شيئاً في تلك المذكرات، بأي     أسلوب أو طريقة، فقد تحتاجها يوماً ما ولا تجدها، وقد يحتاجها أو شيئاً منها أبنائك أو أحفادك من الأجيال القادمة، وعندها تكون الندامة.       

الذكريات: هي المعلومات والأحداث الواقعية الي مرت بأحدنا في ماضيه، المختلف عن        حاضره، المجهول مستقبله، أو تجري في حاضره المتقلب مع ظروف الحياة       وتطورات العصر، مختبئة في الأعماق، أو محفورة في ثنايا الذاكرة، أو مسجلة   في الدماغ بحساسية ربانية عالية، ومعالجة إلهية لتقاوم عوامل الزمن.

وقد تكون مدونة في صفحات أضحت عتيقة، اهترى شيء منها، واصفر جانب        آخر فيها، وانطوى أو تكسر بعضٌ من أطرافها، بعد أن هجرها الزمان. تبقى هذه        الذكريات في أعماقنا بكل ما تحمله من آلام ومآسي، وسعادة وحنين وشوق،           وطموحات ورؤى واسعة لحياة هانئة، في انتظار سحابة ماطرة، أو نسمة عليلة        لتظهر مرة اخرى لحيز الوجود، أو تبقى مختبئة إلى أن نرحل.

هي من خبايا القلب المرهف بالإحساس، المساير لركب الزمان، وهي       شيء من     الوفاء اللا شعوري لمن نحبهم، إنساناً كان، أم زماناً، أم مكان، وقد يجتمعوا، لكن       الذي يَذْكُر أو يتذكر دوماً هو الإنسان بأحاسيسه الجياشة، وعواطفه الدفينة، وقلبه       الملهوف، الولهان بذاكرته وذكرياته بما تحمله بداخلها.

حررت في 01/12/1443هـ، 30/06/2022م،