إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة “ثقافية”

اختلفت وجهات النظر في التعريف لمعنى مفهوم الثقافة الفردية والاجتماعية والمجتمعية والجماعية، وهو شيء طبيعي في الكثير من الأمور.

       بشكل عام، هي جزء رئيسي من العمل السياسي والدبلوماسي، وخط الدفاع الداخلي الأول والأقوى، والجسر المجتمعي المترابط، والقاعدة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، والمنهج المجتمعي المتفرع لمسيرة الحياة في عمليات التشييد والبناء والتعاون، والطريق الآمن للتفاهم الجماعي للترويج والحوار بين الأفراد والشعوب والدول.

       قد تلتقي بعض معانيها في مواضع عدة لِتُقِيم قاعدة قوية في معرفة الآخر، والتعرف على قدراته ومدى استعداده وتحديد معالمه، وقد تساهم معانٍ أخرى منها في بناء العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والمجتمعية المشتركة، وقد تعكس نمط الحياة والمستوى التعليمي والبيئي، وقد تشكّل استراتيجية هامة في صناعة قرارات وتوجّهات الدولة.

       تختلف الثقافات، وتتعدد المنابع والعادات، وتتغير التقاليد والقيم التي تتعامل بها الشعوب والمثقفون بينهم ومع الآخرين بحسب مصادر ثقافاتهم ومستوى فهم كل منهم لها، فلكل مجتمع ملامح ثقافية عامة وخاصة مختلفة عن الآخر.

       هذه المتغيرات الثقافة لها تأثيرات كبيرة على كل أنواع التطورات في أي بلد تتسرب إليه تلك المتغيرات بسلبياتها إيجابياتها، ما لم يكن الغالبية منهم محصن بالوعي وحسن الإدراك، والتمسك بالهوية الوطنية، وفهم الأهداف من تسلل تلك المتغيرات وتلافي السلبيات واكتساب الإيجابيات وتطويرها.

       لذا، تكون الثقافة بمعانيها المتغيرة، ومفاهيمها المتعددة من أهم مشاريع تكوين المجتمع في أي دولة، فهي تحرص على تحصين شعبها من كل أنواع المتغيرات الغير ملائمة، لا سيما وأنّ التطورات التكنولوجية المتسارعة بشكل عجيب خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة تقريباً، قد ساهمت بقدر كبير في انهيار معظم السدود الوقائية، وأزاحت الكثير من الحواجز الدفاعية، وفتحت الحدود الزمانية، وأخفت المواقع المكانية، وادخلت البشرية في مغامرات معرفية عميقة وغير مسبوقة في التاريخ، فتدفقت سيول المعلومات الغثة والثمينة، الصالحة والطالحة، وهنا تظهر الحكمة في حسن التمييز واخيار المفيد. 

       هذه القفزة التكنولوجية الكبيرة في هذه الفترة الزمنية القصيرة مقارنة بسابقاتها، تدفعنا بقوة شديدة وسرعة عالية لضرورة مراجعة كل استراتيجياتنا السابقة والحالية وما يربطهما بتنشئة الأجيال المعاصرة والقادمة، لدمج ومواءمة الثقافة بكل معانيها ومفاهيمها وقيمها الحسنة بالتعليم والأخلاق الحميدة وحسن القدوة من خلال برامج منهجية تعليمية وتثقيفية لمختلف الأعمار، تشرح المعنى الحقيقي لمفهوم الحرية، وترتقي بالفكر، وتنير العقل، وتُنمي الوعي، وتقوي الشخصية، وتصحح السلوك المنحرف، وتكف عن الوصاية الغير شرعية، وتحافظ على العادات الحسنة، والتقاليد المحبذة، والقيم الفاضلة، لضمان حصانة الفرد والمجتمع من الانفتاح الغير محدود، والحرية الزائفة، والأفكار الهدامة.

       الثقافة ليست شعاراً يرفرف في الهواء، ولا كلمات سطحية تطلق في العراء، ولا شهادة ورقية خاوية المضمون، ولا نمط شكلي خالي من المفهوم، ولا هيكل مغرور بنفسه، أو يتباهي بكتابه أسماء ومراجع أجنبية ويتناسي ما قدمه أسلافه لينعم بما هو فيه.

       من وجهة نظري، عند التعريف الشامل للثقافة، أنها اعتراف بالشكر -لله سبحانه وتعالى- أولاً وآخراً، على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم للآخرين مهما قَلَ جميلهم أو تضاءل صنيعهم، ولكل من يُعًلِم أو يساهم في التعليم والتثقيف القويم على اختلاف مجالاته وتخصصاته.

       هي تواضع أخلاقي، وقراءة عميقة بفم، ودراسات مكثفة لما تقرأ، وتحليل دقيق لما تتعلمه منها، وعلم حقيقي، ومعلومات موثقة، وفهم تطبيقي، وإدراك بالعقل، وإحساس واقعي، وتركيز شديد فيما تراه وتسمعه، ودقة فيما تستوعبه بعقلك وتدركه بقلبك، وأحاسيس ملموسة، وحسن المعاملة والتعامل مع الآخر، بمشاعر تفاعلية، وأسلوب مهذب، وعبارات رنانة، وجُمَل بليغة، وكلمات عربية فصيحة.

       قد تثمر عنها الكتابة بإحساس رقيق، ومشاعر شفافة، ومزيج من الواقع والخيال البعيد التصور القريب التخيل، والتفاعل اللا شعوري بين المشاعر والأحاسيس، والتدوين بصدق وأمانة بكلمات عربية فصيحة، وعبارات طبيعية متسلسلة فياضة بعيدة عن التصنع والتزلق والتحيز.

       وقد تشمل القدرة على توصيل الفكرة للطرف الآخر على اختلاف المستويات الثقافية والتعليمية بأسلوب يتلاءم مع كل موقف، ويعكس المستوى الثقافي المجتمعي والجماعي.

       هي حصادٌ لمرحلةٍ متطورة جداً من العلم والمعلومات المتنوعة والخبرات الجيدة في مجالات متعددة، واجادة العادات الحسنة، والتمسك بالتقاليد المحبذة، وتطبيق القيم الرفيعة المتأصلة، والمنعوت بها يوسم ب “المثقف” 

       لست بالقارئ المطلع على الكثير من الثقافات المتنوعة، ولا بالمثقف الطليع في بحور العلم والمعلومات والثقافة، ولا بذاك الكاتب الذي لا يُكسر له قلم، ولا بالرامي الذي لا يخطئ له سهم، وإنما أنا طالب علم، أو باحث مبتدئ، أو كاتب غير محترف، أُبْحِرُ بين الحين والآخر في بحور العلم والمعرفة لأصطاد ما يقدره -الله سبحانه وتعالى- لي منها، قوتاً لعقلي وقلبي، وروحي وفكري، ومشاعري وأحاسيسي، أحاول تدوين شيءٍ مما ينضج منها خلال مسيرة حياتي، فقد يكون فيه ما يفيد غيري، فأنال الأجر والثواب المضاعف، وإن لم، فسأحصل على أجر الاجتهاد، وكرم الله سبحانه وتعالى أوسع من أن يحدد.

همسة “ذاك هو الإنسان”!!

في فصل الربيع، تزدهر الأشجار وتتفتح الزهور ويفوح عبقها فتنتعش النفس بعطرها، وتبتسم الروح بجمال ألوانها، وتعلو الشفاه ابتسامات عريضة لرؤيتها متفتحة.

كذلك حال الإنسان في ربيع عمره، تكثر عنده الأمنيات، وتتوالد لديه الطموحات، وتتوالى عليه المغامرات، ويتسع مجال خياله، وتكثر تخيلاته.

في شتاء عمره يخلد لشيء من الهدوء والسكينة، أو الاستجمام والراحة النفسية، وتبدأ مرحلة الطمأنينة، أو محاولة التركيز على القراءة والكتابة والتدوين إن كان من عشاقها، أو لإحدى الهوايات الأخرى التي يحبها، أو يفقد وقته أمام شاشة التليفزيون يتجول بين قنواته، أو يستسلم للزمن في حزن وألم في انتظار لحظة الرحيل، وهذا شيء مؤلم ومؤسف للغاية.

في خريف عمره تطفو عليه الذكريات وتتوالى التنهيدات، ويسرح الفكر في خيال التصورات. في بعض الحالات يستطيع الجمع بين الربيع والخريف والاستنباط من جمالهما جمالا خاصاً يواكب حالته، يتمتع به كلما طرق باب قلبه الحنين لتلك اللحظات الجميلة التي قضاها، وفاحت أزاهيرها بعبيق الشوق، وتوالت في ذاكرته لقطات من الأحداث المتنوعة، منها الجميل والممتع والمضحك، ومنها الحزين والبائس والمُبْكِي، ومنها الأليم والجارح، وغير ذلك مما يجري على الإنسان في معترك الحياة من متناقضات لا مناص منها.

هي أشياء طبيعية تجري في فصول عمر الإنسان، وتخيلات خيالية للغني والفقير، للذكر والأنثى، للكبير والصغير.

ذكريات متنوعة لا تلبث أن تراوح الفكر، أو تزور العقل، أو تظهر أمام العين الخيالية، يشاهدها أمام ناظريه، تعرض عليه نتيجةً لحدث مشابهه، أو كلمة عابرة تُذَكِرُه بها، أو شبيهة لها قالها أحدهم، تظهر من شريط سنيمائي تصوري خاص بين الحين والآخر والمرء يجلس في سكون تام، وتفاعل عجيب وكأنه يعيش إحدى تلك الأحداث.

فجأة تزول سحابة خياله، وينجلي ظلام ليليه، ويفوق من لحظات غفوته بتنهيدة عميقة، أو ذكر -سبحان الله- وقد تصاحبها ابتسامة عريضة، أو حركات لا شعورية، أو دمعة حزينة، أو أنين داخلي، حسب الموقف الذي كان سارحاً به خياله، أو استرجعه من ماضيه في تلك اللحظات.

يعود لوعيه ليجد نفسه في الحاضر بحاله، فيتحرك في مضض، ويتمتم في ضجر، وقد يكون العكس. يقوم من مكانه باحثاً عما يشغله عما كان سابحاً فيه.

تلك اللحظات التي قد تبدو له أحياناً ساعات وهي لحظات، وقد تصل لبضع دقائق، لها آثار دفينة في الأعماق، متعددة الإيجابيات، ومختلفة السلبيات، تَعَلَّقت ذِكرياتها في ذاكرته، وجال بها خياله لآفاق بعيدة، وحياة ماضية تنشر ظلالها على حاضره، وربما على مستقبله بين الحين والآخر.

ذاك هو الإنسان بشكل عام، عقل وقلب، إحساس ومشاعر، شعور واستشعار، سكينة وضجر، ألم وسعادة، ابتسامة وتقطيب حاجب.

كُنْ على يقين -بالله سبحانه وتعالى- وتأكد بأنك لن تأخذ من الحياة إلا ما كتبه -الله عز وجل- لك مهما فعلت، فاحرص على أن تكون قانعاً بقسمته، راضياً بقضائه وقدره، مصلياً على حبيبه عليه أفضل الصلاة والسلام، ودوداً متسامحاً، دائم الابتسامة في هذه الحياة، لتجد السعادة الحقيقية حتى وإن طال بك المطاف.

همسة خافته”

كل شخص يعبر عن مشاعره، أو يدون أحداثها بطريقة مختلفة عن الآخر، وأسلوب مختلف، قد يتوافق مع البعض، وقد يختلف مع البعض الآخر في وجهات النظر، وهذا شيء طبيعي في الحياة البشرية، ومن المفترض أنها لا تؤدي للخصام أو سوء التفاهم.

ما أدونه بين طياته، ما هو إلا نمط من ذلك، وجهة نظر، أو معلومات موثقة، أو تجارب علمية وخبرة عملية وتطبيقية، أو علم مَنَ -الله سبحانه وتعالى- به علي، وهي عذري من القارئ الذي قد يخالفني فيها، أو في بعضٍ مما يقرأه في مقالاتي، أو مطبوعاتي على اختلاف تخصصاتها، وتنوع مجالاتها.

المذكرات: هي الصفحات أو السجل الأبيض الذي تُدَون فيه الأحداث اليومية والمعلومات    العامة بلغة عامية وكلمات عادية، أو بلغة فصحى وعبارات متقنة الاختيار بحسب       قدرة المُدَون اللغوية والحسية، ومدى تفاعله الحسي فيما يدونه، والإحساسي        بالأحداث والمواقف، لتساهم في راحة الأعصاب، وتهْدِئة النفس، وتحفظ      المعلومات،        فلا تضيع الوقت دون أن تدون ولو شيئاً في تلك المذكرات، بأي     أسلوب أو طريقة، فقد تحتاجها يوماً ما ولا تجدها، وقد يحتاجها أو شيئاً منها أبنائك أو أحفادك من الأجيال القادمة، وعندها تكون الندامة.       

الذكريات: هي المعلومات والأحداث الواقعية الي مرت بأحدنا في ماضيه، المختلف عن        حاضره، المجهول مستقبله، أو تجري في حاضره المتقلب مع ظروف الحياة       وتطورات العصر، مختبئة في الأعماق، أو محفورة في ثنايا الذاكرة، أو مسجلة   في الدماغ بحساسية ربانية عالية، ومعالجة إلهية لتقاوم عوامل الزمن.

وقد تكون مدونة في صفحات أضحت عتيقة، اهترى شيء منها، واصفر جانب        آخر فيها، وانطوى أو تكسر بعضٌ من أطرافها، بعد أن هجرها الزمان. تبقى هذه        الذكريات في أعماقنا بكل ما تحمله من آلام ومآسي، وسعادة وحنين وشوق،           وطموحات ورؤى واسعة لحياة هانئة، في انتظار سحابة ماطرة، أو نسمة عليلة        لتظهر مرة اخرى لحيز الوجود، أو تبقى مختبئة إلى أن نرحل.

هي من خبايا القلب المرهف بالإحساس، المساير لركب الزمان، وهي       شيء من     الوفاء اللا شعوري لمن نحبهم، إنساناً كان، أم زماناً، أم مكان، وقد يجتمعوا، لكن       الذي يَذْكُر أو يتذكر دوماً هو الإنسان بأحاسيسه الجياشة، وعواطفه الدفينة، وقلبه       الملهوف، الولهان بذاكرته وذكرياته بما تحمله بداخلها.

حررت في 01/12/1443هـ، 30/06/2022م،

همسة “قصة من حج عام 1368هـ”

الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، أداؤه لمن استطاع إليه سبيلا. مناله إلى ما قبل حوالي قرن ونيف من الزمان كان ضرباً من الخيال أو نوعاً من المغامرة الانتحارية حتى انتشرت مقولة (الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود) لِمَا كانت تحف رحلته من مخاطر جمة، وقد يكون ذلك أحد أسباب الاحتفالات التي كان يقيمها أهالي العائدين من الحج في كثير من الدول بأمن وسلام حتى عهد قريب.

من إحدى العادات الحسنة منذ القدم عند معظم أهل مكة المكرمة وسكانها والمقيمين بها وبعض من أهل الحجاز، الحج كل عام منفرداً أو بعائلاتهم، -ما لم يكن مسافراً أو مريضاً- أو الحج في مجموعات، أو في ضيافة أحد المقتدرين، أو يحج تعريفة، ويتألم كثيراً من يتأخر عن الحج، وينعت نفسه ب “بالداجج”.

حياة الناس في الماضي بسيطة رغم الظروف المعيشية القاسية، لكن العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الحجازي قوية جداً والمحبة تغلب أكثرهم، وكثير من الأثرياء وكبار الشخصيات في ذلك الزمان لهم مواقف عظيمة وعجيبة ولاتزال موجودة في بعضٍ من ذرياتهم، يدركون جيداً الأوضاع الاقتصادية، ويعرفون العادات والتقاليد، ويشعرون بأحاسيس الآخرين.

كان البعض منهم يقيم صيوان أو مخيم في عرفات مزود بكل متطلبات الضيافة، يستضيف فيه الضيوف من الداخل والخارج -بحسب حالته المادية ومنزلته الاجتماعية- ومن الأهل والأصدقاء والمعارف، وعابري السبيل، أو الحجاج من أي جنسية، مرحباً بهم دون تفرقة ولا عنصرية، بالإضافة لعلمهم ومعرفتهم بقواعد الحج الشرعية، ويمكنهم أو ممن معهم الإجابة على تساؤلات السائلين، تخفيفاً على الحجاج وطلباً للأجر والثواب.

قصة عجيبة حدثت في حج عام 1368هـ، لم يسبق لها مثيل حتى الآن، تركت آثاراً عميقة وذكريات مختلفة، ومواليد وسموا بها.

 كانت سنة مختلفة كثيرا عن سابقاتها وما تلاها حتى عام 1442هـ، عجيبة في حالها، وشديدة في واقعها وغريبة في أحداثها، لن ينساها التاريخ مهما طال زمانه، ولن يتناساها من عاصرها مهما تباعدت أيامه، أصبحت مرجعاً يُؤَرَخُ به لدى البعض لسنوات طويلة.

من عجائب الصدف أن يكون للوالد حسين جستنيه -يرحمنا الله جميعاً- في ذلك العام مخيم كبير في عرفات، تضمن العديد من أفراد العائلة والضيوف من الداخل والخارج، صيوان كبير مستقل للرجال وآخر للنساء، والطباخ وأعوانه في مخيم خاص.

ما لبثت شمس ذلك اليوم أن تزول عن كبد السماء وتنقضي صلاتي الظهر والعصر في جمع تقديم، وينزل الخطيب من على المنبر، وينتهي الناس من تناول طعام الغذاء في سرور وسعادة، وتجمع لبعض الحجاج على جبل الرحمة للوقوف قرب مكان وقوفه صلى الله عليه وسلم تبركاً وتقربا، وآخرين في الخيام، تعالت فيها أصواتهم بالدعاء والاستغفار، حتى تغيرت حالة الجو فجأة، حُجِبت الشمس، تراكمت السحب، وتلبدت الغيوم حتى كادت تُظْلِم الدنيا، فوجه الوالد جميع من في ضيافته للسيارات تحسبا للظروف، وكلف العاملين بجمع الأمتعة. أخذت الرياح الباردة تشتد شيئاً فشيئا، وهبوب العواصف يتزايد شدة حتى اُقْتِلعت الخيام، وهَدمت الصواوين، وتطاير الأثاث، وتفرق الناس طلباً للأمن والأمان.

تفرقت الجموع وضاع الكثير عن موضع مخيمه، وتطايرت السجاجيد والجلائل والحنابل ولم يبق شيءٌ في مكانه، وبدأت مياه السماء تنهمر بغزارة شديدة، مصحوبةً بحبات البَرَدْ الكثيفة والكبيرة المتلاحقة القادرة على فتح الرأس وإسالة الدماء عند سقوطها عليه، وترك أثر مزمن في الجسد إذا أصابت موضعاً منه، والرياحٍ العاتية لا تستقر على حال.

صاح الناس رجالاً ونساءً وأطفالا مستجيرين بالله سبحانه وتعالى وطالبين الاستغاثة. ألم بنا ما ألم بالجميع، الكل يقول نفسي، نفسي، يبحث عن النجاة تحت وبين أي شيء يمكن أن يُظِله ويردأ عنه المطر الغزير والبَرَد الكثيف والبَرْد الشديد. ضاع كثير من الأطفال والنساء، وتاه العديد من الحجاج عن مخيماتهم، وهرب البعض للسيارات وتحتها بحثاً عن الحماية.

أما الوالد -يرحمه الله- فكان رجلاً شجاعاً صبوراً، قام مسرعاً وقد اشتعلت الشهامة، وحَمِيَتْ النخوة، وارتفعت درجة الإدراك بالمسؤولية،

هَبَّ مسرعاً باحثاً عن بقية الأهل والضيوف الكرام وخاصة الأطفال، وملبياً نداء المستجيرين، مسعفاً للضائعين وآوياً للتائهين، وحامياً للمسنين، ومحافظاً على النساء، متحملاً لسعات البَرْد القارس، وضربات البَرَد المؤلمة، وغزارة المطر المنهمرة متجولاً بين أنقاض الخيام والصواوين في العراء، يودعهم في إحدى السيارات الصغيرة بين أهله وضيوفه، والأطفال والشباب لإحدى السيارات اللواري الأخرى وتحت رعاية أخيه عبد الرحمن -يرحمها الله- الذي كان يقف كالأسد صابراً أيضاً على ضربات البَرَد ولسعة البَرْدْ كأخيه حسين، يُلقي عليهم بعض الجلائل والحنابل في حوض السيارة اللوي لحمايتهم من لسعة البَرْد وضرابات البَرَد وغزارة المطر، مهوناً عليهم الأمر، طالباً منهم الهدوء والسكينة والتوقف عن البكاء والصراخ والخوف، ويبث فيهم روح الشجاعة والطمأنينة.

لم تعد تميز بين الليل والنهار وماء السماء يزداد انهمارا، حتى اقترب موعد الغروب، والكل يستغيث ويطلب الرحمة.

أخذ البَرَدُ يتوقف والرياح العاصفة تخف رويداً رويدا، وانهمار المطر يتراجع تدريجياً حتى توقف، وقد اشتدت العتمة على المكان ولم تعد ترى شيئاً من شدة الظلام، وعمق الخوف مما كان.

بدأت تظهر صيحات المستجيرين من بين الخيام المتساقطة والحنابل المتراكمة، ونداءات الباحثين عن ذويهم، وتصاعدت أَنَاتُ المصابين، وبكاء الأطفال المدفونين بين الخيام وتحت الأثاث والناس منشغلون بأنفسهم، كل يبحث عمن فقده من أهله وذويه أو عن مقر مخيمه، والقليل من أخذ يتجول لمساعدة المستغيثين وتلبية نداء المستجيرين. واصل الوالد وعم عبد الرحمن صنيعهما حتى بعد توقف المطر والريح والبَرَدْ حتى يئسا من أن يجدا أحداً لإنقاذه او مساعدته في تلك العتمة الشديدة والبرد القارس.

أسدل الليل ظلمته على عرفات بعد أن حجبت السحب ضوء الهلال عنها، ولم يبق من الأتاريك والفوانيس شيئا، اشتدت لسعة البرد، ولم يعد بالإمكان البحث عن المفقودين أو التائهين أو معرفة مواقعهم، ولم يعد هناك مجال لمزيد من البحث أو البقاء أكثر من ذلك، فأخذ من وجدهم وتوجه بهم إلى مشعر منى وأنزلهم بداره الحديثة البنيان والتي لم يكتمل بناءها ولا تأثيثها بعد، تشرفت تلك الدار الفريدة باستقبالهم وضيافتهم في حب وسعادة ومواساة، بين أهله وضيوفه وشملهم بعطفه ورعايته.

لم يكن من السهولة في ذلك الزمان امتلاك مبنى أو أرض في مشعر منى، لكن منزل الوالد كان قريباً من الجمرة الصغرى، مكون من خمسة أدوار بالأسمنت المسلح، وفي جزء من الحوش ملحق للرجال ومكان للعاملين على الخدمة وللطباخ ومستلزماته.

لم يمض يوم النحر حتى تمكن الوالد من معرفة أسر هؤلاء الضيوف الذين حضروا لاصطحاب من فقدوهم وهم غير مصدقين بنجاتهم. كانت فرحتهم لا تقدر بثمن وشكرهم -لله تعالى- أولاً، ثم للوالد ليس له نهاية.

كان ذلك اليوم يوماً عصيباً، مليءً بالفزع والخوف، نال فيه البعض الكثير من ضربات البَرَد حباً في الله، وتضحية وشجاعة لإنقاذ المستجيرين، وكرم ضيافة.  

بقيت آثار ضربات البرد من تلك الحجة علامة تاريخية مميزة على صدر الوالد -يرحمه الله- وظهره حتى وفاته عام 1412هـ، ذكرى لأحداث ذلك اليوم والموقع، واشتهر ذلك العام ب “حجة أو سنة البرد” وأصبحت مرجعاً تاريخياً لمعاصريها، وسجلاً مرجعياً لما تلاها عند البعض لزمن طويل، بقصة عجيبة، عاصرتها شخصياً، وعُرٍف تاريخ بعضِ مواليدها بها حتى بدأ ضبط سجل المواليد، فنسي كثير من الناس ذلك اليوم العجيب وتاريخه المجيد وحكاياته الغريبة.

عُرِضَتْ فيديو على “منصة أكاديميون الثقافية” مساء الثلاثاء 06/12/1443هـ، 05/07/2022م، ضمن ندوت “الحج بين عبق الماضي وإشراقة الحاضر

همسة عن “متلازمة الزمن الجميل وجيل الطيبين”

اطلعت على مقالة للأخ ياسر عمر سندي تحت عنوان “متلازمة الزمن الجميل وجيل الطيبين” بصحيفة مكة ليوم الأربعاء الأول من مايو 2022م، والتي بين فيها عدم رضاه على نعت زمن الآباء والأجداد بالجميل، وجيلهم بالطيبين، واستكثر عليهم ذلك، وطلبه بوسمهم ب [زمن البسيطين وجيل البسيطين].

       يبدوا أن أخي ياسر لم يعاصر أحداً من طبقة ذلك الجيل، ولم يقرأ لأحد ممن كَتَبَ منهم أو كُتِب عنهم.

ربما شاهدت أو سمعت عن الكثير من المعلومات التاريخية القديمة والأجيال التي عاصرتها بِمُرٍها وحُلْوِها، مثل جدة التاريخية وغيرها، وعقال الأحياء والحواري القديمة ورجالها في مكة المكرمة وما بقي منها حول أو قريبة من المسجد الحرام.

ربما نسيتها أو تناسيتها، لكنها واقع تاريخي عريق لأمجاد أسلافنا الذين يستكثر عليهم البعض كلمة وفاء، أو دعوة خالصة من القلب، بل وربما يحاول البعض تجاهلهم أو نسيانهم.

قد يكون مناسباً لفهم كثير من الأمور التي تختلط علينا، محاولة تكرار البحث والسؤال والقراءة وإجادة الفهم لنزداد علماً ومعرفة وتكون وجهة نظرنا أكثر وضوحاً وأقرب للصواب.

       يا أخي الكريم، كل شيء في هذه الحياة له معايير أو مقاييس ثابته وأخرى متغيرة، ومفهوم معنى الحياة بكل عناصرها، له ثوابت ومتغيرات مختلفة من شخص لأخر، ومن مجتمع لآخر، على مر الأيام والعصور.

كذلك حال الجمال والقبح، والسعادة والشقاء، والسقم والعافية وغيرها من المتناقضات الأخرى، وهي حكمة إلهية أوجدت التجانس أو التعايش في الحياة بين الأفراد والشعوب والقبائل، ولولا ذلك لتساوت وجهات النظر عند الناس في كل شيء، ولم تعد هناك حاجة للتغيرات ولا للمتغيرات.  

       لو حاولت تعمل مقارنة بسيطة بين مفهوم معنى الحياة في جيلك والجيل الذي يليك أو الجيل الحالي، ولا أعتقد أنه صعب، لأمكنك معرفة الفوارق العديدة للمفهوم المعنوي لتغيرات ومتغيرات الحياة ومعاصريها، والتي من المؤكد أنها ستجعلك تعيد النظر فيما كتبه عن ذلك الزمان وجيله، في مقالك المشار إليه، وربما يذكرك بأن من استكثرت عليهم (نعت جميل وطيبين) هم الأجداد والآباء الذين بذلوا كل ما يملكون في زمانهم الجميل -نسبة لحياتهم ومجتمعهم- لنتمتع نحن ومن يلينا من أجيالهم بما نحن فيه في هذا العصر الذي يتنكر فيه البعض لهم ويستنكر جميلهم، بدلا من أن يقدم لهم جزيل الشكر والدعاء لهم على ما قدموه.

وقد يذكرك أيضاً، بأن ما يبنيه الجيل المعاصر سيكون قاعدة يتمتع بها الجيل القادم ويبني عليها صروحاً من العلم والمعرفة والسعادة والطموحات البناءة بالنسبة لهم، وهكذا دواليك، تدور عجلة الحياة، كل جيل يبني للجيل الذي يليه.   

أخيرا: (من لا يشكر الناس، لا يشكر الله) حديث صحيح [من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه].

حرر في 05/11/1443هـ، 04/06/2022م.

همسة عبر الأثير

همسة من الأعماق أبثها عبر الأثير، مع نسمات الفجر العليل، وعبير الزهور والورد والياسمين، تتردد دون انقطاع إلى أن يُهيئ الله لها من يسمعها بقلبه، ويستوعب معناها بعقله، ويفهم مضمونها بإحساسه، ويرسم برامجها بدقة، ويحقق أهدافها بفعله، ويوصلها للرؤيا الطويلة الأمد.

تتطور مسيرة الحياة المعاصرة بشكل متسارع شبه لحظي، وتحدث أحداث كثيرة مفاجئة، وأحداث متوقعة، وأحداث غير متوقعة، مما يوجب القلق ويدعو للحيطة والمزيد من الحذر.   

كان الأسلاف في السابق يعتمدون على الحفظ الشفهي لنقل المعلومات والأنساب وغيرها ويتوارثونها أجيالاً بعد أجيال، ثم حان عصر الكتابة بمراحله المتعددة، وتلاه عصر الطباعة الورقية بمزاياه الكثيرة وعيوبه المحدودة، لكنها بقيت الأكثر أماناً على بقاء كل العلوم والمعلومات ونقل الحضارات، ولا أدل على ذلك من كتاب الله المبين، المنزل على الرسول الأمين، حفظه الله سبحانه وتعالى- من التحريف والتغيير، فكانت طباعته ورقياً أفضل وسيلة لانتشاره السابق في بقاع الأرض وبعدة لغات دون تحريف ولا تغيير.

ارتفعت تكاليف الطباعة، وبدأت الوسائل الحديثة لنشر العلوم والمعلومات بعدة لغات بترجمة فورية وتبادل الثقافات بطرق شبه لحظية، مما تسبب في ضعف الاهتمام بعمليات تطور طرق وأساليب الحفظ والكتابة والطباعة الورقة، فأخذ في التغيب عن الساحة تدريجاً، وأقبل الكثير على استخدام أحدث الطرق بأقل التكاليف، ولمسة الأصبع.

لا شك أن التطور شيء جميل جداً بكل المعاني ضمن الإطار العام، لكن هناك أموراً يجب المحافظة عليها لأنها الأكثر أمناً وأمانا، والوسيلة الأفضل للمحافظة على كل أنواع المقتنيات.

لقد سبق أن كتبت كالكثير غيري من المهتمين والمختصين عن ضرورة المحافظة على طرق الحفظ والكتابة والطباعة الورقية، ودارت في الصحافة مناقشات عديدة حول هذا الموضوع، لكن العاصفة كانت شديدة، فتبعثرت الصفحات في فضاء فسيح، وتاهت النداءات بين ذبذبات الأثير حتى يكاد يُسْدَلُ الستار على قاعدة الحفظ والكتابة والطباعة الورقية. لم تكن عاصفة شديدة وحدها، بل تبعها تيار جارف كان أقوى من كل المقاومات بكثير، ولا يزال شديداً يجرف كل ما يعترضه أو يجده في طريقه.

لو حدث حادث ما مثلاً، عُطْلُ مفاجئ في القمر الصناعي، أو ضرر أو ما شابه ذلك، ستتوقف جميع وسائل التواصل والاتصالات عن أي دولة كما يحدث الآن لروسيا كمثال واقعي نتعلم منه العبر، ونأخذ منه دروساً عديدة، من فرض العقوبات، وحجب وسائل التواصل، وقطع الاتصالات اللاسلكية وما ينتج عنه من أضرار بليغة. لم تعد الحياة الطبيعية مضمونة، لأن نظامها يستند على مبدأ القوة، وفرض السيطرة، والخضوع للأمر الواقع.

ترى كيف سنتمكن من استكمال تدوين وتوثيق الماضي! وكيف يمكننا استخراج المعلومات! وكيف يمكننا معرفة وحفظ وتدوين المستجدات! وكيف يمكننا مواصلة الحياة بعد أن ركزنا كل اعتمادنا على تلك الطرق والوسائل التي لا نملك القدرة على التحكم فيها! ولا نستطيع حمايتها من التلاعب بها! ويتعذر علينا حماية أنفسنا مما قد يصيبنا من أضرار جسيمة لو توقف أو حُجِبَ القمر الصناعي عن البث على دولة ما!! 

 الحيطة واجبة، والحذر مطلوب، وحسن النية وارد، لكن الواقع متغاير، والمصالح متقلبة، علينا أن نأخذ العبرة من الحياة، ونتعلم من دروس الآخرين أو مما يحدث لهم، وأن نحرص على تجنب الوقوع فيما أُسقطوا فيه، أو انزلقوا إليه، وعلينا أن نجد المرادف والبديل وتوفير الاحتياطي، وأن نكون مستعدين تحسباً للظروف الطارئة.

قد يكون من الضروريات الشديدة الإلحاح في ظل هذه الظروف المتضاربة عالمياً، الأخذ بعين الاعتبار هذه الدروس التطبيقية الحالية على روسيا وأمثالها، وما يبدو في الأفق من التحركات الصينية، وسرعة اتخاذ قرار فوري بالعودة السريعة لاستخدام طرق الحفظ والتدوين والتوثيق المطبوع لجميع ما لدينا من مستندات ووثائق وصور وكتب ومجلات وصحف وغيرها، وما يستجد لضمان المحافظة على إرثنا التاريخي العريق، وعلمنا وعلومنا وكتبنا ومعلوماتنا ومقتنياتنا على اختلاف مستوياتها وأثمانها، المكشوفة للغير، والتي قد يمكن التلاعب بها، أو حجبها عنها، إذا لم نعتبر مما يحدث لغيرنا.

قد يكون من الأفضل الأخذ بعين الاعتبار سرعة تطوير وتطبيق أنظمة وطرق الحفظ والكتابة والطباعة الورقية، والعمل على تقليص سلبياتها لتواكب المسيرة، والعودة لاستخدامها، مع حفظ أكثر من نسخة مطبوعة من موجوداتنا وفي أماكن مختلفة تحسباً لكل الاحتمالات، بالإضافة لاستخدام الطرق الحديثة لمواكبة مسيرة التنمية المستدامة.

هذه همستي الخالصة لوجهه الكريم، وهديتي بمناسبة شهر المحبة والقرآن، أبثها عبر الأثير في هذا الشهر الفضل، متمنياً أن تُسمع بإنصات دقيق، وتُفهم بقلب مخلص رشيد، وتُدرك بمشاعر وطنية خالصة، وأن تصل لعقل وقلب كل مواطن في أي موقع، وكل من يعشق القراءة والكتابة الورقية وحفظ الوثائق والمستندات المختلفة، والمحافظة على تاريخنا العريق، بأن تحظى هذه الهمسة بسرعة تطبيقها، وأن تحظى بالعناية الخاصة من كل من يستطيع تحقيق أهدافها وتنظيم خطط رؤياها للحاضر والمستقبل

والله المستعان.  

حرر في 09/09/1443هـ، 10/04/2022م.

همسة خواطر رمضانية[1]

أساتذتي وإخواني وأبنائي الكرام من الجنسين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله.

نهنئكم بهذا الشهر الفضيل، ونسأل الله تعالى أن يقبله ويتقبله منا بعفوه وكرمه، وأن يبلغنا إياه أعواماً عديدة في صحة وعافية وأمن وأمان.

أشكر منصة “أكاديميون الثقافية” على إتاحة هذه الفرصة لألتقي بكم في هذه المناسبة الإسلامية الرائعة، شهر المحبة والغفران، نسترجع خلالها بعض الخواطر، أو القليل من الذكريات، ونترحم على أسلافنا وندعو لهم بالرحمة والغفران.

الخواطر كثيرة، والذكرات عديدة، ومناسباتها مختلفة، اليوم يجول بخاطري جانب من أحداث شهر الصوم الفضيل قبل أكثر من نصف قرن مع ذكرى قدومه.

كان لوالدي حسين محمد سعيد جستنيه -يرحمه الله- حتى نهاية عام 1374هـ، 1955م، قبل توسعة المسعى، دار عامرة أمام باب السلام الكبير واجهته على المسعى مباشرة ومدخله من زقاق البلدية بواسطة درج للدور الأول، لأن الأرضي محلات تجارية على المسعى الذي يعتبر أكبر سوق تجاري في مكة المكرمة.

كذلك، كان للوالد دكان في الجهة المقابلة بين بابي السلام الكبير والصغير، يبيع فيه ساعات رولكس، أوميقا، وأنواع مختلفة من الخردوات، وفوط الإحرام وأشياء كثيرة أخرى، وكلونيا ليالي باريس، والطائر التي بدأت تظهر في ذلك الزمان.  

كنت في بداية المرحلة الابتدائية أجلس بصحبة والدي في الدكان بعد العصر في رمضان والمسعى مرصوفة بالحجارة ويوجد حاجز رمزي متقطع بين الصاعد للمروة والنازل للصفا، نشاهد ونسمع المعتمرين وهم يسعون مهللين مكبرين سائلين راجين الكريم.

كان من عادة أغلب أهل الحجاز أداء عمرة واحدة على الأقل في رمضان، بالإضافة لعمرة ربيع ورجب وشعبان، من جدة والمدينة والطائف، وأغلبهم لهم معارف أو أقارب أو أصدقاء في مكة.

كأنني الآن، أسمع صوت الوالد -يرحمه الله- يقول “عمرة مقبولة، أو من المقبولين إن شاء الله- وأسمع رد الآخر قائلاً “جميعا إن شاء الله، شكرا” والوالد يرد عليه ننتظرك على الفطار، فيرد الآخر “إن شاء الله”

وقبل آذان المغرب أجد عدد جيد من هؤلاء المعتمرين قد وصل للدكان أو ذهب للبيت لأنه معروف، ويوجد ثلاثة من العاملين على الضيافة في الدور الأول يستقبلون الضيوف ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه، ريثما يأتي الوالد.

كانت تمتد سفرة طويلة من أنواع الطعام الرمضاني الحجازي، كل محتوياتها من طهي سيدات البيت -يرحمهن الله- الجدة والعمة والوالدة، والجواري، ثم أصبحن العاملات من المواطنات، بعضهن زوجات العاملين أو قريباتهم، أو من غيرهم.

نبدأ ببسم الله، نتناول التمر والصقيع، ونشرب الزمزم ثم نقوم لصلاة المغرب في الغرفة المجاورة خلف إمام المسجد الحرام ونحن في البيت نشاهد المصلين في باب السلام وفي المسعى.

بعد الصلاة يجلس الجميع حول المائدة في سعادة وهناء، كأنني أشاهد هؤلاء الضيوف الأعزاء أمام عيني في هذه اللحظات على شريط سينمائي وهم يضحكون معاً في سعادة وتبادل أحاديث جميلة خلال تناول الطعام على مائدة أرضية، من صحون مشتركة، ولقيمات متبادلة بينهم بنفوس طيبة، وابتسامة مشرقة.

اتخيل السادة الأفاضل أحمد صلاح جمجوم، أحمد يوسف زينل، أبوبكر باخشب باشا، ونور ولي، وعبد الله قاضي، وصالح كشميري، وزكي يماني، وعبد الوهاب عبد الواسع، وأيوب صبري، وحسن داغستاني، وحسن علام، وغيرهم كثير أنساني الزمان أسمائهم، قد يجتمع بعضهم بالتنسيق بينهم، وقد يصادف تواجد آخرين مع بعضٍ منهم، أو بدون وجودهم. وهؤلاء من الشخصيات التي كتبت عنهم في كتابي “رجل المهمات الصعبة” في (530) صفحة A4 و(1220) صورة ومستند ووثيقة تاريخية، بعضها تظهر لأول مرة، وبينت بعض المواقف التي عاصرتها منهم.    

بعد الحمد والشكر لله، نقوم لغسل اليدين، ثم يعود الجميع لتناول القهوة العربي، والعربي بالنانخة المحمصة، ثم الشاي الأسود، أو بالنعناع الطائفي أو المدني، وكذلك الأخضر، حتى آذان العشاء، فنؤدي الصلاة في جماعة مع الإمام من البيت، البعض يخرج لصلاة التراويح في الحرم، والبعض يبقى، والبعض يغادر عائداً لداره.

بعد التراويح توضع أنواع مختلفة من الحلويات البيتية أيضاً، مثل الكنافة والفلة، والجبنية، والرقاق الحلو، واللبا مع العسل، وغيرها من نعم الله تعالى علينا.

شكرنا لنعم الله يتواصل، فيأتي دور الموالح للتسلية مثل المنفوش والفول النابت والترمس والحلبة الخضراء، وقبل الفجر بحوالي ساعتين يأتي دور السحور بنعم الله الكثيرة، والحلا ساقدانة، أو مهلبية، أو خشاف، أول لبن زبادي.

تختتم الجلسة أو السهرة بالصلاة على النبي والفاتحة ثم الصلاة عليه، ويقوم الجميع للاستعداد لصلاة الليل وانتظار صلاة الفجر أيضاً مع الإمام.

اللهم ارحمهم أجمعين، وارحمنا وجميع المسلمين برحمتك التي وسعت كل شيء، ولا تؤاخذنا على أخطائنا، فأنت الجواد الكريم، وصلى الله وسلم على نبيك الأمين.     

أرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم، وإن شاء الله تكون ذكرى طيبة وكل عام وأنتم بخير.

حررت في 18/08/1443هـ، 21/03/2022م.   


[1] حلقة مسجلة فيديو خصيصاً لموقع منصة “أكاديميون الثقافية” وقامت ببثها في المنصة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى في 08/09/1443هـ، 09/04/2022م.

همسة أبوية[1]

روى لِي الوالد حسين جستنيه -يرحمه الله- قصة في إحدى الجلسات الخاصة معه قائلاً، [“تقدمت السن بأحدهم، كان له ابن بار به يسهر على راحته والعناية به وحمله ونظافته وغسله وتطيره وتلبية كل متطلباته، وذات يوم أراد الابن مداعبة والده فقال له، يا أبي الآن أصبحنا متساويين، فقال الأب كيف يا بُنَيَّ! فقال الابن، راعيتني وحفظتني وحملتني وربيتني وطهرتني وقدم لي كل ما أطلبه عندما كُنْتُ طفلاً حتى أصبحت رجلاً، والآن أنا أقوم بنفس الدور فتساوينا، تبسم الأب ابتسامة عريضة وقال، لكنك يا بني نسيت أهم شيء في المقارنة، فقال الابن وما تلك! فقال الأب، أنا كُنْتُ أخاف عليك من لفحة الهواء، وأفعل كل شيء لتنميتك وتطويرك، وأتمنى أن تكون أفضل مني، وهذا ما لا يتمناه أحد لغيره إلا الأب، وأبذل قصارى جهدي لتحظى بحياة سعيدة وسيرة حسنة وذكرى طيبة، وأن يطول عمرك في طاعة الله تعالى، أما أنت!! فماذا تتمنى لي! تسأل نفسك مراراً وتكراراً، ترى متى أستريح من هذا العناء!!! وأردف الوالد قائلاً ولأمك ثلاثة أضعاف ما لأبيك فلا تغرك الحياة يا بني فتخسر الدنيا والآخرة”، فبكى الابن وطأطأ رأسه وقَبَّلَ يدي والده وقدميه وطلب منه العفو والسماح]. انتهى.

تمعن يا أخي في هذه الحكاية وافهم معناها، واعمل بمقتضاها، وحقق مرتجاها قبل أن يمضي بك الزمان وأنت لاهٍ عنهما، منشغل أو متشاغل بأمور الدنيا، أو مغرور بحياتك الخاصة حتى لا تخسر الدارين. هكذا كان السلف الصالح قدوة حسنة لأبنائهم، ومدرسة متنوعة المناهج، متعددة المراحل. ترى! هل نحن كذلك! أو هل لا يزال هذا النمط من الآباء يعيش بهذه المبادئ في هذا العصر الذي أصبحت فيه المادة العنصر المسيطر على كل شيء، والطريق للوصول لأي شيء! نسأل الله اللطف والسلامة.

اللهم بحق اسمك الأعظم، وحرمة بيتك الحرام، وفضل شهر القرآن المبين، ارحمهما كما ربيانا صغيراً وتجاوز عنهم وعنا وعن وجميع المسلمين، وأكرمنا وإياهم أجمعين بما أنت أهل له يا رب العالمين، والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين إلى الدين. 


[1] منقولة من المجلد الثاني من “مجموعة التراجم التحليلية التداخلية المشتركة” إبراهيم حسين جستنيه، تحت المراجعة. تذكرتها خلال المراجعة، أعجبتني فأحببت أن تشاركوني الأجر والثواب.

همسة “إذا عُرف السبب”

قرأت مقالة الأستاذ عبده خال في صحيفة عكاظ الإلكترونية في 27/04/1440هـ 03/01/2019م، بعنوان [خِيرة الله عليك يا حمود «بطّل»]، ولم أستطع كتابة المداخلة عليها في الصحيفة، فقررت إرسالها له مباشرة، لكن عدم معرفتي برقم هاتفه، وعدم وجود وسيلة للتواصل معه أجل إرسالها، فأضفتها مباشرة لكتابي “همسات” -أعانني الله تعالى على إعداده- قبل أن تضيع مني الكلمات، وسأحاول إرسالها له بمشيئة الله، إن تمكنت.

        أخي الكريم عبده خال، لك مني جزيل الشكر والتقدير،

أولا: لاهتمامك الشخصي وعلاقتك الوثيقة ومعرفتك الخاصة بالدكتور حمود علي أبو طالب.

ثانياً: على غيرتك الشديدة على عدم ضياع أو اندثار ما لدية من معلومات ووثائق تاريخية مهمة لا تزال في طي النسيان أو عالم الكِتمان.

ثالثاً: على التنويه عن تواجدها وخطورة نتائج إهمالها.

رابعاً: حرصك الشخصي الشديد على إيجاد وسيلة لحفظ تلك الوثائق وتدوين المعلومات في سجلات توثيقية.

خامساً: طرح فكرتك للمناقشة، تهدف لضبط مَكْمَن تلك المعلومات والوثائق وحثه على توثيقها، كونها حق مشاع للتاريخ وللأجيال الحاضرة واللاحقة.

        معذرة لأنني لا أؤيد هذه الفكرة التي طرحتها “اختطافه” أو -إكراهه إن صح التعبير-على عمل شيء لا نعرف سبب عدم رغبته فيه حالياً على الأقل، إذ قد تؤدي هذه الخطوة لنتيجة عكسية، وقد تخسر العلاقة الوثيقة بينكما، وهو ما لا نحبه ولا نتمناه.

أرى إذا تسمح لي، أن يكون للعلاقة القوية التي تربطكما دور إيجابي أخوي شديد، يبدأ من:

أولا: معرفة الدوافع الرئيسية أو الحقيقية لحالات السفر التي أشرت إليها ورغبته الكامنة في الابتعاد عن محيط أو جو معين.

ثانيا: معرفة أو التعرف على نتائج رحلاته تلك ووجهاتها وحصيلة ثمراتها، خارج النطاق العام أو المعروف لكم، فقد تكون لها جدوى غير ظاهرة تستحق إعادة النظر في وجهة نظرك وتساهم في إمكانية إقناعه أو التفاهم معه لتوفير شيء من الوقت لتدوين وتوثيق ما لديه من علم ومعلومات ومعرفة ورثها أو تعلمها، أو تجزئة توثيقها، أو إسنادها لمن يوثقها تحت إشرافه ومتابعته “فإذا عُرف السبب، بَطُلَ العجب”.

لقد عانيت الأمرين في جمع معلومات على مدى ثمانية وعشرين عاما لتدوينها في كتاب “رجل المهمات الصعبة” والذي صدرت أخيرا طبعته الأولى قبل شهرين، ولا أزال أعاني الأمرين والألم لعجز المعلومات لاستكمال كتاب “آل جستنيه وإخوتهم”، ولا زلت أدون وأوثق معلومات أخرى ستضمنها كتاب جديد بمشيئة الله قريباً.

لعل لهذه الكلمات صداً أخوي لدى الدكتور حمود بن علي أبو طالب، والأستاذ عبده خال، وبقية الأحباب لتتظافر الجهود لتحقيق الأهداف المنشودة، وتوثيق المعلومات والوثائق المدسوسة.

معذرة على المداخلة. أطيب تمنياتي.  حرر في 27/04/1440هـ، 03/01/2019م.