إبراهيم بن حسين جستنيه

همسة مقبرة السيدة خديجة

الكاتب لهذه السطور عضو في مجلس حارات مكة المكرمة التنسيقي، وعضو في المجلس الاستشاري لحارات مكة المكرمة، وعضو في مجموعة البيوتات والعوائل المكية التي أنشأها المهندس محمد آل زيد جزاه الله كل خير، وتضم العديد من أبناء وبنات مكة المكرمة ومحبيها، وكثير منهم على مستوً عالٍ من العلم والثقافة والخبرة والمعرفة والمعلومات، وبها مهتمين بالتاريخ الملكي.

       طُرِح نقاش في موقع مجموعة البيوتات حول المقابر، أخذ البعض يشكك في صحة الموقع المعروف منذ قرون لقبر السيدة خديجة رضي الله عنها ومطالباً بدليل من القرآن أو السنة. لم أعلق لأنني لست متخصص، لكن خلال مواصلتي البحث والتدقيق للتدوين في مسودة إحدى مطبوعاتي، وجدت صورة من أحد المراجع التركية عن مقبرة المعلاة تبدوا فيها قباب مقبرة السيدة خديجة وغيرها من الصحابة فأرسلتها للمجموعة، وهنا بدأ نوع من الهجوم والقول بأن مكان هذا القبر “مزعوم ولا أساس له من الصحة”، وهذا شيء محزن ومخجل جداً ومؤلم كثيراً، خاصة عندما يصدر من أحد أبناء أو بنات مكة المكرمة أو سكانها.    

صورة من أرشيف الصور، لمقبرة المعلاة من أحد المراجع التركية قبل العهد السعودي، وتظهر فيه قباب مقبرة السيدة خديجة رضي الله عنها. تحياتي. المستشار إبراهيم حسين جستنيه

الجميع يعلم أنه مرت فترات زمنية على المملكة ظهرت خلالها فئات من الناس نَصَّبَتْ نفسها عَمادة الإسلام، كفرت كل من يخالفها، ولم تدع شيئاً تقريباً إلا حرمته، أو جعلته كفراً أو شركاً بالله، أو بدعة وضلالة في النار، وغيرت الكثير من عقول الشباب والفتيات بدعوى منسوبة للإسلام وهو بريء منها. كما أن إحدى تلك الفئات تمكنت من إعادة طباعة بعض الكتب وحذف مالا يعجبها فيها، وإضافة ما يتوافق مع هواها وقامت بتوزيعها مجاناً على كل من هب ودب، لتنشر أفكارها وتشكك الناس في المعلومات السابقة، ومنعت الناس والحجاج من الوقوف والسلام على السيدة رضي الله عنها ووضعت عضواً منها يحول دون وقوف أو تواجد الزائرين لها، كما منعوا زيارة غاري حراء وثور ووضعوا حوله حراسة للحيلولة دون الوصول إليه، مما أتاح الفرصة لبعض المرتزقة من جنسيات مختلفة بالقيام بأمور سيئة للغاية. هذه الفئات من الناس فعلت أفعال كثيرة يندى لها الجبن، لسنا بصدد ذكرها.

سنبدأ البحث في موضوع مقبرة السيدة خديجة رضي الله عنها بخطوات تحليلية بسيطة ومتتابعة حتى نصل للنتيجة، دون نقل المداخلة التي حدثت في المجموعة لعدم الإطالة.   

توفت السيدة خديجة رضي الله عنها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل الهجرة، جميع الصحابة والتابعين يعرفون قبرها، وكذلك تابعي التابعين ومن تلاهم توارثاً عن أسلافهم من الصحابة. محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة لا يجهلها كافر، ولا ينكرها جاهل، فما حال الآخرين!

توالت العصور منذ بداية عصر الخلفاء الراشدين إلى نهاية العصر العثماني (11-1341هـ) مع كل من كان خلال تلك القرون والفترات الزمنية من صحابة وعلماء وفقهاء والأئمة الأربعة والتابعين وتابعيهم وأحفادهم، والقاعدة العامة “عدم النفي أو عدم الإنكار إثبات” دون أن يوجد من يشكك في الموقع الحالي لمقبرة السيدة الجليلة خديجة رضي الله عنها، وتوالت كتب التاريخ وبعض البحوث العلمية مؤكدة الموقع الحالي لقبرها.

لم استسغ هذا التشكيك، بل آلمني جداً، وأخافتني كثيراً توقعات ردود فعله بين المسلمين والأجيال القادمة، فقررت البحث والتقصي رغم أنه ليس مجال تخصصي، لكن طلب العلم ليس له حدود، فوجدت بحث طويل في صفحة (256-263) من المجلد (6) الطبعة (3) 1425هـ، في كتاب { التاريخ القويم لمكة بيت الله الكريم} للشيخ محمد طاهر الكردي المكي، خلاصته [الاتفاق على وجود قبرها رضي الله عنها في مقبرة المعلاة، لكن تحديد موضع القبر به خلاف لاختلاف توجهات بعض من حكام مكة المكرمة، وهدم القباب أو نقل المعالم واللوحات الإرشادية التي كانت موجودة سابقاً على معظم القبور بالمعلاة لأكثر من مرة نتيجة بعض المعتقدات أو لظروف وجهل بعض القبرجية، وأن الدعاء أو السلام عليها ليس مرتبطاً بحال القبر، بل يصلها ويصل كل المسلمين بمشيئة الله تعالى أينما دفنوا، بالإضافة للفضائل لمن دفن بمكة، وخاصة بالمعلاة].

الأشخاص هم الذين يكتبون التاريخ ويتناقلون المعلومات، وقد تخضع كتاباتهم له للظروف المحيطة بكل منهم، وقلما تكون حرة، وقد تكون هذه المبررات وليدة الظروف كما أشار إليها كاتبها ضمنياً، لأن العالم كله لم ينكر أو يشكك في الموضع الحالي لقبرها رضي الله عنها حتى نهاية الحكم العثماني وبداية الحكم السعودي أيضاً. كما قرأت ما ورد بصفحة (238-239)، (246-247) من البحث الجامعي للدكتور سامح إبراهيم عبد العزيز الذي طبعه كرسي الملك سلمان لدراسات تاريخ مكة المكرمة 1435هـ، مؤكداً بأسانيده على الموضع الحالي لقبر السيدة خديجة رضي الله عنها، ولا يزال العالم الإسلامي يُقِرُّ بالموقع الحالي ويزورها فيه الأحفاد والمحبين. لم يكن هناك أي خلاف أو شك على موضع القبر المعروف حتى الآن لسيدة نساء العالمين رضي الله عنها بالمعلاة في مكة المكرمة. نحن الآن في عام 1443هـ، فهل من ولد بعد كل أولئك الصحابة والتابعين وتابعيهم والعلماء والفقهاء والأئمة الأربعة ومعرفة بعضهم قرب البعض الآخر أو انتسابه الشريف، يكون أكثر معرفةً أو فهماً أو علماً بموضِع القبر من كل تلك الأجيال خلال القرون السابقة! أم أن هناك فئة تريد تشويش العقول وبث الفتنة بين المسلمين وضياع الأجيال القادمة! أبعد كل هذه الوقائع والأحداث حاجة للتشكيك في موضع قبر السيدة خديجة رضي الله عنها، والمطالبة بالإثبات من القرآن والسنة! 

       بعد البحث والدراسة والتحليل وقراءة ما أمكنني من مراجع وكتب وأبحاث عن موضع قبر السيدة خديجة رضي الله عنها، وذكر الحيثيات المبينة أعلاه، وحيث أنني لم أجد أحداً فيما قرأت عن هذا الموضوع، قد وَثَّقَ أو بين أو أشار لمكان زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم المؤكدة لقبرها رضي الله عنها بعد فتح مكة، وحيث أن أحداً لم يذكر شيئاً عن زيارتها من قبل الصحابة أو التابعين، أو تابعيهم، ولم ينكر أو يُشَكِّكْ في الموقع الحالي الذي تُزار فيه منذ قرون، وحيث لا يوجد ما يشير لاحتمال خلاف حول موضع القبر على مر قرون سابقة، وحيث أننا توارثنا هذه المعلومة ونعرف هذا الموضع عن أسلافنا منذ قرون مضت، وحيث أنه لا يوجد ما يجزم بعدم صحة موضع قبرها، وحيث أن الأمر مجرد احتمالات مبنية على ظروف متقلبة باعتقادات خاطئة خلال فترة قصيرة معينة غيرت الظروف توجهها ظاهرياً على الأقل، وحيث أن التشكيك في الموضع الحالي لقبرها قد يتسبب في فتنة كبيرة بين المسلمين في جميع أنحاء العالم لا تحمد عقباها، فللحيثيات المشار إليها، أرجح، بل أؤكد تأييد موضع القبر الحالي للسيدة خديجة رضي الله عنها بمقبرة المعلاة في مكة المكرمة والمعروف منذ قرون. والله أعلم.

عفواً أخي القارئ الكريم، فأنا لست بكاتبٍ ٍبارعٍ، ولا محدثٍ ماهرٍ، ولا مؤرخٍ متخصصٍ، بل أنا مجرد طالب علم مبتدئ، أو باحث في أول الطريق، وهذا مجرد اجتهاد شخصي مبني على حقائق واقعية واعترافات جماعية لقرون عديدة سابقة لزماننا، فمن وجهة نظري، أن العلم قراءة بالعقل، وفهم بالوعي، ودراسة للحقائق، وتحليل بالمنطق، وإدراك بالأحاسيس، ومعرفة بالمشاعر، واستنباط بالفكر، ومراجعة بالاستدراك، ونتيجة بالواقع، وليس العلم قراءة سطحية، أو حفظ وترديد لما يقال أو لما يخطر على البال في غفوة الزمان وكثرة القليل والقال، أو يكتب أو يُمْلا كما يفعل الكثير في عصر الجهل الذاتي والفراغ الذهني، وبلبلة الأفكار، وتضارب الفتاوى. نسأل الله العافية والسلامة وحسن الشكر والعفو، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين.

أطيب تحياتي.

المستشار والمحكم الدولي/إبراهيم بن حسين جستنيه

نشر بتاريخ سبتمبر 2021,2